يبدو المشهد التونسي، الرسمي والحزبي، منضبطاً بشدة في عدم الخوض في ملف التوتر الخليجي الناتج عن الحملة التي تشنها دول بقيادة السعودية والإمارات ومصر ضد قطر، مع إصرار تونس على الحياد و"الدعوة إلى الحوار بين الدول الخليجية لتجاوز الأزمة" بحسب ما كرره أكثر من مرة في الأيام والساعات الماضية، وزير الخارجية، خميس الجهيناوي. وباستثناء موقف الرئيس السابق، منصف المرزوقي، الذي كان مباشراً وذهب إلى أصل الموضوع وأسباب الأزمة الحقيقية الكامنة في الرغبة بالتخلص من استقلالية السياسة الخارجية القطرية، داعياً إلى التضامن مع الدوحة، جاءت بقية المواقف، على قِلَّتِها، متناسقة تقريباً.
وما اختيار الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، المنفى السعودي الذي عرض عليه من قبل الرياض، والموقف السلبي إزاء حكام ما بعد الثورة، إلا نموذج عن الموقف الرسمي السعودي-الإماراتي من الثورة التونسية. من هنا، لم يكن بإمكان تونس الرسمية أن تدير ظهرها إلى الدوحة في محاولة محاصرتها، بعدما دعمت التجربة التونسية الديمقراطية، ووقفت إلى جانبها من أجل معالجة مشاكلها الاقتصادية. وحصل ذلك مع كل الحكومات التي تعاقبت بعد الثورة، وأكثرها مع حكومات عهد الرئيس الباجي قائد السبسي بالذات، الذي تربطه علاقات جيدة مع المحور الذي يشن الحملة حالياً ضد قطر، ما أسقط من مناوئي الدوحة تهمة الانتصار لطرف سياسي دون آخر.
وكان حزب نداء تونس الحاكم، قد ترك تقدير الموقف للرئيس باعتباره المسؤول عن ملف العلاقات الخارجية بحكم الدستور، داعياً بدوره إلى الحوار "بين الأشقاء في الخليج"، وهو نفس موقف حركة النهضة، الشريك الأول للنداء في الحكم. ودعا رئيس مجلس شورى النهضة، عبد الكريم الهاروني، الرئيس السبسي، لإطلاق مبادرة تهدف لحل الأزمة في الخليج "بحكم خبرته الدبلوماسية الطويلة، وبصفته رئيس دولة تتمتع باحترام كبير في العالم". ولاحظ الهاروني في حوار لإذاعة "شمس" الخاصة، أن قطع العلاقات مع قطر "أمر مؤلم، لأن أكبر مستفيد من حالة الانقسام العربي هو الكيان الصهيوني والإرهاب"، مشيراً إلى تزامن هذا الحدث الأليم مع ذكرى حرب 1967.
ويقوم الموقف التونسي من الأزمة على تقاليد ديبلوماسية قديمة، أساسها عدم التدخل في الشأن الخارجي عموماً، ولكنه يستند أيضاً إلى قراءة تاريخية لسلسلة الأزمات، تعرف تونس أنها تنتهي دائماً بالتوافق، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم حلّها خارج دائرة الحوار. ولتونس علاقات جيدة مع كل أطراف الخلاف، على الرغم من تميز مستوى العلاقة مع قطر بالذات في السنوات الأخيرة، وخصوصاً منذ أن ألقت قطر بكل ثقلها لدعم التجربة التونسية والعمل على إنقاذ الاقتصاد التونسي المتراجع، وهو ما تجلى بوضوح في المؤتمر الاستثماري الدولي الذي رعته قطر وكانت أكبر مانحيه، وأول منفذي وعوده.
ولا يمكن لتونس أن تغامر باستقرارها الهش، وأن تقصي الحزب الأول عددياً في البرلمان (النهضة)، وشريكها في الحكم الذي أثبت تجانساً واضحاً مع الرئيس السبسي من ناحية ومع حزب نداء تونس من ناحية أخرى. وجدّد الحزبان يوم الثلاثاء، تمسكهما بهذا التنسيق، واتفقا على رفع مستواه من خلال إقرار آلية تشاورية دورية، ووضع لجنة عليا مشتركة تنسق بين الحزبين والكتلتين النيابيتين.
لكن تونس تصر على "الإجماع العربي"، لحل مشاكل إقليمية متعددة، وتدرك أنها من أكبر المتضررين من وضع الانقسام وغياب التجانس العربي في أكثر من ملف، وأولها الملف الليبي. وفي حين يقوم الحل التونسي على جمع كل أطراف الأزمة الليبية من دون إقصاء، يظن آخرون، مدعومون خصوصاً من أبو ظبي والقاهرة، أن الحل العسكري بإمكانه أن يحسم صراعاً مستمراً منذ سنوات دون أن يتمكن طرف من السيطرة على الآخر.
وتتقاسم تونس هذا الرأي مع الجزائر، التي تؤكد مصادر مطلعة في تونس لـ"العربي الجديد" أنها، أي الجزائر، رفعت من حدة رفضها للحلول العسكرية خلال الأيام الأخيرة، وأنها مستعدة لكل الفرضيات من أجل فرض الخيار السياسي في ليبيا، مما جعل دول الجوار تجتمع بسرعة في الجزائر لإعادة التأكيد على هذا المبدأ.