تمر المنطقة العربية بلحظات فارقة، فهناك حروب وصراعات مسلحة في أربع دول، هي العراق واليمن وسورية وليبيا. وهناك قلاقل سياسية واضطرابات عنيفة في دول عديدة أخرى، وهناك محاولات مستمرة من قبل إيران للتدخل في الشأن الداخلي العربي، وهناك عمليات نزوح جماعية من قبل مواطنين عرب خاصة السوريين والعراقيين لأقطار خارجية.
وإضافة إلى التوترات الجيوسياسية هناك أيضا اضطرابات اقتصادية ومالية ناجمة عن عدة أسباب، منها تهاوي أسعار النفط والغاز الذي تعتمد عليه إيرادات العديد من الدول، مثل دول الخليج والعراق والجزائر وليبيا.
وهناك اضطرابات حادة في أسواق الصرف في معظم دول المنطقة، وهو ما يؤدي إلى حدوث ارتفاعات قياسية في الأسعار، وتآكل العملات الوطنية، ومعها تآكل القدرة الشرائية للمواطنين، بسبب زيادة معدلات التضخم التي باتت تفوق أسعار الفائدة على الودائع المصرفية.
والأخطر من ذلك توسّع معظم الدول العربية في الاقتراض الخارجي مقابل شروط مجحفة يفرضها الدائنون، أخطرها رهن أصول الدولة وممتلكاتها لصالح مؤسسات مالية دولية، وتحكم الدائنين في أوجه الإنفاق الحكومي، والرقابة على الميزانية، كما حدث في العراق أخيراً.
الآن ماذا عن مستقبل المنطقة؟ وما هي أولويات المنطقة للقضاء على الصعوبات الاقتصادية التي باتت تمثل تهديداً مباشراً لأنظمة الحكم فيها؟ وكيف سيتم توفير فرص عمل لما يقرب من مائة مليون شاب؟ وكيف سيتم التعامل مع تطلعات الشعوب العربية المتشوقة للعدالة الاجتماعية، وتوديع أزمات الفقر والفساد والبطالة والمحسوبية والبيروقراطية؟
في فندق شيراتون الدوحة، جلس عدد من الخبراء العرب والأجانب المتخصصين في مجالات عدة سياسية واقتصادية ومالية، لمدة ثلاثة أيام، للإجابة عن سؤال واحد هو: ما هي أولويات دول المنطقة خلال الفترة المقبلة حتى يتم وضعها أمام متخذي القرار والعمل عليها؟
والملفت بداية أنه لم يكن هناك اتفاق بين المجتمعين على أولويات محددة، ولذا كانت هناك خلافات شديدة بين الحضور عند إجابتهم عن السؤال السابق، فبعضهم أكد أن الأولوية تكمن في إعادة بناء العقد الاجتماعي بين الحكومات والمجتمع، والذي انهار خلال السنوات الأخيرة، وكانت نتيجته تراجع الأداء الاقتصادي وتصاعد الغضب الشعبي ضد الحكومات.
وبعضهم تحدّث عن ضرورة توفير فرص عمل لملايين الشباب خاصة خريجي الجامعات بدلاً من أن يرتموا في أحضان الإرهاب والتطرف والمخدرات أو الهجرة خارج الأوطان.
وتحدّث آخرون عن مشكلة الانفجار السكاني وعدم الاستفادة منها، وكيف أنها أصبحت تهدد التنمية الاقتصادية وتلتهم أية إنجازات على الأرض، وعن التوزيع العادل للثروات، وضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية، وتمكين المرأة اقتصاديا لأنها تمثل نصف المجتمع، وسد الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وكذا عن أهمية زيادة دور القطاع الخاص، والاهتمام أكثر بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة الأكثر استيعابا للأيدي العاملة.
كما تحدّث بعضهم عن ضرورة الانتقال إلى مرحلة ما بعد النفط، ودعم الاستقرار السياسي، لأنه المدخل الطبيعي لحدوث استقرار اقتصادي ومالي حقيقي، وخلق الوظائف، لأنها أولوية قصوى في كل الدول، والمدخل الطبيعي للقضاء على التطرف والفساد.
ورغم هذه الخلافات حول أولويات المرحلة المقبلة، إلا أن الجميع اتفق على شيء واحد هو أن أولويات الشعوب العربية في فترة ما بعد ثورات الربيع العربي تختلف بشكل جذري عن أولوياتها في مرحلة ما قبل الثورات، وهو ما يفرض على صانع القرار التعامل بجدية مع تطلعات الشعوب.