11 نوفمبر 2024
خطيئة السوريين
في لقاء مع طبيب سوري تونسي عابر في باريس، سألت محدّثي، بعد الاستفسار عن أحوال تونس الحبيبة وتحولاتها السياسية، عن الأسباب التي دفعت كثيرين من أصدقاء الثورة السورية هناك إلى الصمت أمام ما يجري من تدميرٍ للبلاد، وتكريس للاحتلالات الأجنبية. فرد من دون تردّد: أتفهم موقفهم، فأي تعبير عن دعم الثورة السورية سيتسبب بخسارةٍ سياسيةٍ كبيرة لصاحبه، مهما كان وضعه السياسي. قلت كيف؟ قال إن الرأي العام التونسي يميل اليوم في غالبيته إلى الاعتقاد بأن الثورة السورية لم تكن أصيلة أو أنها اختطفت. ويكاد يصدق الرأي القائل إنها كانت أو على الأقل ارتبطت بمؤامرةٍ دوليةٍ، إسرائيلية أميركية خليجية ضد سورية التي تشكل الحصن الأول للعرب في مواجهة الدولة الصهيونية، وأنها هي المسؤولة عن دمار البلاد وتهجير شعبها وتشريد الملايين من أبنائه. قلت: ألم يروا مسيرات السوريين السلمية في كل المدن والبلدات السورية، وقمعها العنيف من النظام؟ ثم ألا يدفعهم صمود السوريين واستمرارهم في التظاهر في أقسى الظروف، وتحت رصاص القوى الأمنية وفرق الموت، إلى تغيير اعتقادهم هذا؟ وكيف يفسّرون هذه التضحيات الهائلة وغير المسبوقة بالنفس والمال، إنْ لم تكن لدى السوريين دوافع سياسية وأخلاقية عميقة، ورغبة لا تحدّ في الخلاص، بأي ثمن، من نظام يخنق جذوة الحياة فيهم، وينكر حقوقهم الأبسط، ويعاملهم معاملة الإرهابيين والمتمردين، ويرفض، منذ أكثر من خمس سنوات، التفاوض معهم، ولا يقدّم لهم بديلاً لحكم الطغيان غير الموت والتهجير القسري والإبادة الجماعية؟ قال: في نظر الأكثرية من الرأي العام، هؤلاء ليسوا ثواراً، وليس من أهدافهم التحرّر من الديكتاتورية، وإنما هم منظمات إرهابية ممولة من دول الخليج والإمبريالية الغربية، أما التظاهرات السلمية فكثيرون يعتقدون أنها صُوّرت في استديوهات "الجزيرة". واستطردت سائلاً: وكيف ينظرون إلى صور آلاف الشباب والفتيات الذين سرّب مصور الأمن العسكري (قيصر) صور موتهم تحت التعذيب، بأجسادهم النحيلة كهياكل عظمية، ولا تزال آثار التمثيل بأجسادهم وهم أحياء، وبالأرقام المرسومة على جبهاتهم، والتي تذكّر بصور ضحايا معتقلات النازية؟ وماذا يقول هؤلاء عن التقارير الدولية التي أقرّت صحة هذه الوثائق، ولم يقدّم النظام نفسه أي حجةٍ تنفي وجودها؟ قال هي صور مختلقة يشكل استخدامها جزءاً من المؤامرة المحبوكة ضد سورية، وليس لها أي أساس من الحقيقة، وربما كانت من صنع المنظمات الإرهابية نفسها. قلت: واستخدام الأسلحة الكيماوية الذي أثبتت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة، منذ أيام قليلة، مسؤولية النظام عنها
بعد ثلاث سنوات من العمل، وبإشراف دولي لا علاقة للمعارضة به، وهذا الدمار الذي يكاد لم يترك بلدةً، ولا مدينةً، لم يسوِّ بناءها بالأرض، تحت قصف البراميل المتفجرة التي لا تملك المعارضة وسائل إلقائها، هل هذه أيضاً من صنع المؤامرة الدولية؟ قال بالضبط. في نظر كثيرين، إن من يدمر البلدات والمدن هم المنظمات الإرهابية التي تحارب النظام، والأسلحة الكيماوية قصة يرويها الغرب، لإدانة النظام وتبرير ضرب الدولة السورية، لأنها تقف ضد اسرائيل. أنت تستغرب ما أقول، لكن الشعب لا يقرأ أو، على الأقل، لا يتابع ما تكتبونه أنتم، ولا يثق بوسائل الإعلام الخليجية، وهناك عمل كبير دعائي وإعلامي تقوم به الجماعات المرتبطة بإيران. وفي محاولة لتفسير ما يحصل، أضاف محدّثي: القضية الفلسطينية كانت حجر عثرة أمام فهم الثورة السورية، فلدى التوانسة تقديس حقيقي لها. وقسم كبير منهم يعتقد أن ما يجري في سورية، مهما كانت أسبابه، مؤامرة ضدها، ولا يهمه في ما إذا كان وراء ذلك مطالب سورية شعبية محقة أم لا.
في حب الأسد والتضحية بسورية
على الرغم من لا معقوليته وتناقضاته وعبثيته، يكاد هذا الخطاب يلخص، مع بعض التعديلات هنا وهناك، خطاب جميع مؤيدي الأسد من القوى الدولية والعربية. وهناك اليوم سوريون وعرب يفكرون قريباً من هذا الخطاب، أو يبرئون الأسد من حرب الإبادة السورية التي يمكن لأي إنسان أن يتابع اليوم مباشرةً على شاشات التلفزة العربية والعالمية فصولها، والأساليب التي يستخدمها النظام وحلفاؤه فيها من أجل كسر إرادة السوريين، وتدمير شروط حياتهم، وإجلاء أكثرهم عن مدنهم ومناطقهم وتشريد أكبر عدد منهم في أربع جهات الأرض. ولا يخفي الأسد نفسه سعادته لخروجهم وتنصله من المسؤولية عن مصيرهم، بل والشماتة بهم. فأمام استقالة العالم العربي في المواجهة الطويلة مع إسرائيل، وانكفاء الأقطار العربية على نفسها، وغياب أي مشروع جامع وملهم، بدا تمسك النظام السوري بخطاب الممانعة والمقاومة، مهما كانت درجته من الصدق والحقيقة، في نظر قطاعات يئست من الأوضاع العربية، وعلقت آمالها على سورية التي كانت دائماً قلب الوطنية العربية النابض، كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء، ولا هدف له إلا الوصول إليه للنجاة.
والواقع أن النظام السوري الذي ورث سورية، وتقدير العرب كفاح شعبها وحبهم لها، عرف كيف يستفيد من الفراغ السياسي العربي، ويجعل من الممانعة والمقاومة ورقة التوت التي يخفي وراءها سياسته الحقيقية التي حفظت له البقاء، خلال العقود السابقة، وهي السلام الواقعي مع إسرائيل والحرب المعلنة، الدائمة والشاملة، ضد الشعب السوري، لإخضاعه لإرادته، وتكريس تحويل الجمهورية إلى إمارة وراثية لبيت الأسد وأنصارها والملتفين حولها. وهي الورقة التي ضمنت له التعامل مع الدول العربية، من باب القوة والتفاهم معاً، وجعلت منه رقماً في المعادلة الإقليمية، فقد كانت الأنظمة بحاجة أيضاً إلى هذه الورقة، للتعويض عن تقاعسها، والتغطية على فشل سياساتها القومية. ولهذا، استحق نظام الأسد منها، على الرغم من خلافاتها معه، دائماً الدعم والتأييد. وكما كان نظام الأسد بحاجة إلى استقالة النظم العربية في القضية الوطنية، من أجل إضفاء الشرعية على زعامته الهزيلة وتحالفاته الخارجية مع طهران الطامحة لابتلاع المنطقة العربية، كان النظام العربي المتفكّك بحاجةٍ إلى نظام ممانعة الأسد وتحالفاته، ليحرف النظر عن إفلاس سياسته أمام الجماهير العربية.
والقصد، لا يمكن الفصل بين تمسّك قطاع واسع من الجمهور العربي الغريق بقشة الممانعة،
ومن ورائها، خرافة المقاومة المرتبطة بحزب الله وإيران، واليأس الذي ولدته سياسات الاستسلام والتسليم بالأمر الواقع التي تبنتها النظم العربية، وافتقار المنطقة إلى أي سياسةٍ وطنيةٍ في مواجهة التغول الإسرائيلي، وتراجع السياسات التنموية والاجتماعية. ولا يمكن تفسير تعلق قطاعاتٍ من الجمهور العربي، بزعامات "قومية" فارغة، قادت بلادها نحو المحرقة، كزعامة الأسد، ومن قبله صدام حسين، من دون الإشارة إلى ما سيطر على العالم العربي من فراغ القيادة، واحتلال مراكز المسؤولية العليا من فئاتٍ تفتقر لأي مشروعٍ أو خطابٍ سوى السعي المحموم إلى تعظيم ثرواتها المالية، واستعراض تبعيتها للحماية الخارجية. وليس هناك شك في أن نظام الأسد أدرك أكثر من غيره، بعد اغتيال صدام، قيمة الاستحواذ على إرث الوطنية العربية، السوري والعربي معاً، بشقيه المعادي للسيطرة الإسرائيلية والمدافع عن قيم التضامن والوحدة القومية العربية، واستخدامه لصالحه، بعد أن تبرأ منه الجميع، ونظروا إليه كعبء ثقيل يهدّد استقرار سلطاتهم، ويقطع الطريق على تمرير سياساتهم الاستسلامية واللاشعبية. وهكذا، التقى عداء الأسد المعلن للنظم العربية بعداء جمهور واسع لها في كل مكان، وزاد في رصيده الشعبي ترديده خطاب الممانعة ودعم المقاومة، حتى لو كانت سياسته الحقيقية عكس هذا تماماً، وغطى بذلك على تحالفاته الإقليمية المريبة التي ستظهر أهميتها في أول انفجار للأزمة الداخلية وصراعاته مع معظم الدول العربية.
لماذا انعدم التضامن العربي مع السوريين؟
كما نجح النظام السوري في وضع اليد على إرث الوطنية العربية الذي حرّك الملايين في الخمسينات والستينات، نجح أيضاً، على الرغم من سياساته الاقتصادية النيوليبرالية الفجّة، ونتائجها الاجتماعية الكارثية، كما أظهرت دراسات ما بعد الثورة، في الاستفراد بإرث اليسار القومي والماركسي العربي الذي تركّز على مقاومة سياسات الغرب الإمبريالية، واستفاد من التحالف مع ما تبقى من القوى التي تمثله على الصعيد العربي والدولي، للتغطية على سياساته الداخلية الإقصائية والإفقارية. وهكذا استخدم النظام خطاب الممانعة لإسرائيل والمعاداة للأمبريالية الغربية، لتبرير نظام قائم على القهر والتنكيل واحتكار السلطة وتعميم القمع والاعتقالات بالجملة، من دون أن يكلفه ذلك أي جهدٍ جدّي لمواجهة إسرائيل، أو القطيعة مع السياسات الأميركية والغربية بل بالعكس، ساعده على إخفاء اتفاقاته السرية التي ضمنت تعاطف إسرائيل وتعاون الإدارة الأميركية، عن الرأي العام. وكما صرح الأسد نفسه، قبل أيام من اندلاع الثورة، كان تمسّكه بهذا الخطاب ورقة الرهان الرئيسية لتجنيب نظامه مصير النظم الاستبدادية العربية. ولا شك في أن قطاعاتٍ واسعةً من الرأي العام، السوري والعربي، المحبط والفاقد للأمل، آثرت التعلق بوهم الإنقاذ المحتمل للرهانات القومية واليسارية القديمة، الوطنية والقومية والاجتماعية، الذي احتكر الأسد تمثيلها، على أن تتضامن مع الشعب السوري في مواجهة المذابح والنكبات والكوارث الإنسانية والسياسية التي يتعرّض لها على يد نظام يدّعي الوطنية والقومية والتقدمية. وهذا أحد مظاهر السقوط الأخلاقي الذي أدّت إليه الصراعات التي رافقت اندلاع الثورات العربية، وشكلت أيضاً عقبة أمام تقدّمها وانتصارها.
كانت خرافة الممانعة السورية مفيدة للجميع، باستثناء الشعب الذي كان عليه أن يدفع ثمن
أكذوبتها، ولم تكن فيها بالنسبة للنظم العربية سوى مشكلة واحدة مؤرقة، هي ارتباطاتها بإيران التوسعية. وما كان لقطاعاتٍ واسعةٍ رسميةٍ وشعبيةٍ مصلحة في تبديد هذه الخرافة أيضاً. فقد كان كشف حقيقتها يعني تعرية الواقع العربي، الرسمي والشعبي معاً، والاعتراف بخسارة الرهانات الوطنية والقومية والاجتماعية التي عاش العرب عقوداً طويلة في انتظار تحقيقها، وفرضوا على أنفسهم تضحيات مادية وسياسية وإنسانية لا توصف بسببها. والأهم أن مثل هذا الاعتراف بالخسارة كان يتطلب، بالضرورة، إقرار النظم بالمسؤولية عنها، وتحمل تبعاتها. وبالتالي، القبول بمراجعة جذرية للسياسات والخيارات الخاطئة التي قادت إليها، وفي مقدمها تهميش الشعوب والحكم بالقوة والعنف وتجريم السياسة وتحقير الإنسان والاستهتار بحقوقه وتطلعاته.
أما بالنسبة لقطاعات واسعة من الجمهور التي لم تعتقد يوماً بالديمقراطية، ولم تعتد التفكير في معنى الحرية الشخصية، ومن باب أولى ممارستها، من عرب بسطاء ومثقفين وسياسيين منخرطين في أوهامهم، أو متعاونين مع النظام، فقد كان التخلي عن وهم الممانعة يعني التخلي عن آخر أوراقهم، وتقويض موقفهم، وإبراز عدم اتساق أفكارهم، والانقلاب على جزءٍ كبير من القيم والسلوكيات التي اعتادوا عليها في ظل النظم الشمولية، والدخول في صراعٍ جديدٍ مع الذات، ومع أغلبية المجتمع. والواقع أن جزءاً من محنة السوريين في ثورتهم وضعف التضامن العربي معهم لا يمكن فصله عن سيطرة هذا الخطاب القومي، وما خلفه من قيمٍ غريبةٍ جعلت من حقوق الشعوب نقيضاً لحقوق الإنسان، وشرعت للنظم والحكومات أن تضع الدفاع اللفظي عن الهوية، وتكرار الشعارات القومية التي لا تستدعي أي التزاماتٍ عملية، بديلاً لبرنامج التحرر الإنساني، وتعتبر ما عدا ذلك خيانةً وطنية، وتسليماً بالضغوط الإمبريالية.
خطيئة السوريين التي حرمتهم من تعاطف قطاعات واسعة من الرأي العام العربي، والتضامن الحي الذي كان منتظراً منه، أنهم كشفوا بثورتهم عن عورة النظام العربي في كل الميادين، وفضحوا لعبة الجميع، أؤلئك المستقيلين من القضية والمتفرغين لسياسة المال والأعمال واختراق أسواق الاستثمار العالمية ومراكمة الريوع المالية من جهة، وأصحاب الممانعة المراهنين على المليشيات الإيرانية الأجنبية، والمتاجرين بقضية فلسطين والمقاومة لمصالح خاصة، في مقدمها تمكينهم من حكم سورية، واستغلال شعبها كمزرعة عبودية من جهة ثانية.
باختصار، بخطابه الديماغوجي، قدّم نظام الممانعة ورقة التوت الواهية الأخيرة التي كان يحتاجها العرب، شعوباً وحكومات، لستر عورة فشلهم وإخفاقهم وسقوط خططهم، وغياب أي مشروع لديهم للعمل الوطني الجدّي، ليس من جهة تحرير فلسطين أو الوقوف في وجه الاستيطان الإسرائيلي فحسب، ولكن، أكثر من ذلك، من أجل الدفاع عن شعوبهم وسيادة دولهم وحدودها ضد التدخلات والاحتلالات الأجنبية، حتى أصبح بإمكان مليشيات هزيلة أن تهدّد أمنهم القومي، وتجرح كرامتهم الوطنية.
خطيئة الشعب السوري أنه، في نزوعه الجامح نحو الحرية، أسقط من دون أن يقصد أوهام كثير من العرب، عن أنفسهم وعن العالم، ومحا للأبد ما تبقى من آثار الحقبة القومية المتفسّخة، وشرع لهم أبواب المستقبل التي طالما خافوا ولوجها.
في حب الأسد والتضحية بسورية
على الرغم من لا معقوليته وتناقضاته وعبثيته، يكاد هذا الخطاب يلخص، مع بعض التعديلات هنا وهناك، خطاب جميع مؤيدي الأسد من القوى الدولية والعربية. وهناك اليوم سوريون وعرب يفكرون قريباً من هذا الخطاب، أو يبرئون الأسد من حرب الإبادة السورية التي يمكن لأي إنسان أن يتابع اليوم مباشرةً على شاشات التلفزة العربية والعالمية فصولها، والأساليب التي يستخدمها النظام وحلفاؤه فيها من أجل كسر إرادة السوريين، وتدمير شروط حياتهم، وإجلاء أكثرهم عن مدنهم ومناطقهم وتشريد أكبر عدد منهم في أربع جهات الأرض. ولا يخفي الأسد نفسه سعادته لخروجهم وتنصله من المسؤولية عن مصيرهم، بل والشماتة بهم. فأمام استقالة العالم العربي في المواجهة الطويلة مع إسرائيل، وانكفاء الأقطار العربية على نفسها، وغياب أي مشروع جامع وملهم، بدا تمسك النظام السوري بخطاب الممانعة والمقاومة، مهما كانت درجته من الصدق والحقيقة، في نظر قطاعات يئست من الأوضاع العربية، وعلقت آمالها على سورية التي كانت دائماً قلب الوطنية العربية النابض، كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء، ولا هدف له إلا الوصول إليه للنجاة.
والواقع أن النظام السوري الذي ورث سورية، وتقدير العرب كفاح شعبها وحبهم لها، عرف كيف يستفيد من الفراغ السياسي العربي، ويجعل من الممانعة والمقاومة ورقة التوت التي يخفي وراءها سياسته الحقيقية التي حفظت له البقاء، خلال العقود السابقة، وهي السلام الواقعي مع إسرائيل والحرب المعلنة، الدائمة والشاملة، ضد الشعب السوري، لإخضاعه لإرادته، وتكريس تحويل الجمهورية إلى إمارة وراثية لبيت الأسد وأنصارها والملتفين حولها. وهي الورقة التي ضمنت له التعامل مع الدول العربية، من باب القوة والتفاهم معاً، وجعلت منه رقماً في المعادلة الإقليمية، فقد كانت الأنظمة بحاجة أيضاً إلى هذه الورقة، للتعويض عن تقاعسها، والتغطية على فشل سياساتها القومية. ولهذا، استحق نظام الأسد منها، على الرغم من خلافاتها معه، دائماً الدعم والتأييد. وكما كان نظام الأسد بحاجة إلى استقالة النظم العربية في القضية الوطنية، من أجل إضفاء الشرعية على زعامته الهزيلة وتحالفاته الخارجية مع طهران الطامحة لابتلاع المنطقة العربية، كان النظام العربي المتفكّك بحاجةٍ إلى نظام ممانعة الأسد وتحالفاته، ليحرف النظر عن إفلاس سياسته أمام الجماهير العربية.
والقصد، لا يمكن الفصل بين تمسّك قطاع واسع من الجمهور العربي الغريق بقشة الممانعة،
لماذا انعدم التضامن العربي مع السوريين؟
كما نجح النظام السوري في وضع اليد على إرث الوطنية العربية الذي حرّك الملايين في الخمسينات والستينات، نجح أيضاً، على الرغم من سياساته الاقتصادية النيوليبرالية الفجّة، ونتائجها الاجتماعية الكارثية، كما أظهرت دراسات ما بعد الثورة، في الاستفراد بإرث اليسار القومي والماركسي العربي الذي تركّز على مقاومة سياسات الغرب الإمبريالية، واستفاد من التحالف مع ما تبقى من القوى التي تمثله على الصعيد العربي والدولي، للتغطية على سياساته الداخلية الإقصائية والإفقارية. وهكذا استخدم النظام خطاب الممانعة لإسرائيل والمعاداة للأمبريالية الغربية، لتبرير نظام قائم على القهر والتنكيل واحتكار السلطة وتعميم القمع والاعتقالات بالجملة، من دون أن يكلفه ذلك أي جهدٍ جدّي لمواجهة إسرائيل، أو القطيعة مع السياسات الأميركية والغربية بل بالعكس، ساعده على إخفاء اتفاقاته السرية التي ضمنت تعاطف إسرائيل وتعاون الإدارة الأميركية، عن الرأي العام. وكما صرح الأسد نفسه، قبل أيام من اندلاع الثورة، كان تمسّكه بهذا الخطاب ورقة الرهان الرئيسية لتجنيب نظامه مصير النظم الاستبدادية العربية. ولا شك في أن قطاعاتٍ واسعةً من الرأي العام، السوري والعربي، المحبط والفاقد للأمل، آثرت التعلق بوهم الإنقاذ المحتمل للرهانات القومية واليسارية القديمة، الوطنية والقومية والاجتماعية، الذي احتكر الأسد تمثيلها، على أن تتضامن مع الشعب السوري في مواجهة المذابح والنكبات والكوارث الإنسانية والسياسية التي يتعرّض لها على يد نظام يدّعي الوطنية والقومية والتقدمية. وهذا أحد مظاهر السقوط الأخلاقي الذي أدّت إليه الصراعات التي رافقت اندلاع الثورات العربية، وشكلت أيضاً عقبة أمام تقدّمها وانتصارها.
كانت خرافة الممانعة السورية مفيدة للجميع، باستثناء الشعب الذي كان عليه أن يدفع ثمن
أما بالنسبة لقطاعات واسعة من الجمهور التي لم تعتقد يوماً بالديمقراطية، ولم تعتد التفكير في معنى الحرية الشخصية، ومن باب أولى ممارستها، من عرب بسطاء ومثقفين وسياسيين منخرطين في أوهامهم، أو متعاونين مع النظام، فقد كان التخلي عن وهم الممانعة يعني التخلي عن آخر أوراقهم، وتقويض موقفهم، وإبراز عدم اتساق أفكارهم، والانقلاب على جزءٍ كبير من القيم والسلوكيات التي اعتادوا عليها في ظل النظم الشمولية، والدخول في صراعٍ جديدٍ مع الذات، ومع أغلبية المجتمع. والواقع أن جزءاً من محنة السوريين في ثورتهم وضعف التضامن العربي معهم لا يمكن فصله عن سيطرة هذا الخطاب القومي، وما خلفه من قيمٍ غريبةٍ جعلت من حقوق الشعوب نقيضاً لحقوق الإنسان، وشرعت للنظم والحكومات أن تضع الدفاع اللفظي عن الهوية، وتكرار الشعارات القومية التي لا تستدعي أي التزاماتٍ عملية، بديلاً لبرنامج التحرر الإنساني، وتعتبر ما عدا ذلك خيانةً وطنية، وتسليماً بالضغوط الإمبريالية.
خطيئة السوريين التي حرمتهم من تعاطف قطاعات واسعة من الرأي العام العربي، والتضامن الحي الذي كان منتظراً منه، أنهم كشفوا بثورتهم عن عورة النظام العربي في كل الميادين، وفضحوا لعبة الجميع، أؤلئك المستقيلين من القضية والمتفرغين لسياسة المال والأعمال واختراق أسواق الاستثمار العالمية ومراكمة الريوع المالية من جهة، وأصحاب الممانعة المراهنين على المليشيات الإيرانية الأجنبية، والمتاجرين بقضية فلسطين والمقاومة لمصالح خاصة، في مقدمها تمكينهم من حكم سورية، واستغلال شعبها كمزرعة عبودية من جهة ثانية.
باختصار، بخطابه الديماغوجي، قدّم نظام الممانعة ورقة التوت الواهية الأخيرة التي كان يحتاجها العرب، شعوباً وحكومات، لستر عورة فشلهم وإخفاقهم وسقوط خططهم، وغياب أي مشروع لديهم للعمل الوطني الجدّي، ليس من جهة تحرير فلسطين أو الوقوف في وجه الاستيطان الإسرائيلي فحسب، ولكن، أكثر من ذلك، من أجل الدفاع عن شعوبهم وسيادة دولهم وحدودها ضد التدخلات والاحتلالات الأجنبية، حتى أصبح بإمكان مليشيات هزيلة أن تهدّد أمنهم القومي، وتجرح كرامتهم الوطنية.
خطيئة الشعب السوري أنه، في نزوعه الجامح نحو الحرية، أسقط من دون أن يقصد أوهام كثير من العرب، عن أنفسهم وعن العالم، ومحا للأبد ما تبقى من آثار الحقبة القومية المتفسّخة، وشرع لهم أبواب المستقبل التي طالما خافوا ولوجها.