ساهم تسليط الضوء على التقارير الإسرائيلية بشأن سياسة "العصا والجزرة" التي أعلنها وزير الأمن، أفيغدور ليبرمان، من أجل محاولة الالتفاف على السلطة الفلسطينية وتشجيع عملية بروز قيادات مستقلة عنها، في الآونة الأخيرة، في حجب الأنظار عن المداولات المتكررة لدى قيادة جيش الاحتلال ووزارة الأمن، في شأن متابعة أدق تفاصيل الانتخابات البلدية المزمع إجراؤها في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول المقبل، في الضفة الغربية وقطاع غزة. ويجري البحث والتدقيق أيضاً في هوية وطبيعة المرشحين للرئاسة الفلسطينية، في المستقبل، لا سيما الأشخاص المستقلين كلياً عن كل من حركتي فتح وحماس. ويحصل كل ذلك داخل أروقة سلطات الاحتلال ضمن خطة لتعزيز الدعاية التي أطلقها ليبرمان تحت شعار التخلص من "السلطة الفلسطينية الحالية" والإتيان بقيادات بديلة.
ويرى بعض المحللين والمراقبين، في الصحف الإسرائيلية، مثل أليكس فيشمان، وناحوم برنيع، وعاموس هرئيل، أن كل الخطط التي كان يطمح ليبرمان إلى تطبيقها تحت شعار التخلص من سلطة الرئيس محمود عباس (أبو مازن)، كانت قائمة قبل توليه وزارة الأمن. وكانت تدرج أصلاً تحت شعار "يوم ما بعد عباس"، وتحت شعار أطلقه وزير الأمن السابق، موشيه يعالون، من أجل "الفصل بين روتين الحياة العادية للسكان الفلسطينيين غير المنخرطين في عمليات الانتفاضة وبين مواجهة الانتفاضة ومنفذي العمليات وضرب عائلاتهم". وهذه الخطط تلحظ أيضاً تشديد الحصار على البلدات التي يخرج منها منفذو العمليات، لا سيما في محافظة الخليل.
وذكر فيشمان في هذا السياق أن قيادة الجيش تدرك أنها قد تضطر إلى "سحب الخطط والبرامج المعدة مسبقاً" إذا جاءت نتائج الانتخابات مطابقة لهذه المخاوف، أو إذا تحولت الانتخابات الفلسطينية إلى ساحة مواجهات دموية داخلية وفوضى. وفي هذه الحالة ستضطر إسرائيل إلى تحديد موقفها وردة فعلها على تطورات كهذه، بحسب فيشمان الذي كشف أن السؤال المركزي الذي يطرح في مداولات هيئة الأركان ووزارة الأمن الإسرائيلية ومجلس الأمن القومي، يتمثل في معرفة ما إذا كان سيتوجب على إسرائيل التدخل أم السعي للعمل على إلغاء الانتخابات الفلسطينية وتأجيل موعدها؟ على أية حال، تنوي قيادة الاحتلال إبقاء "عينها مفتوحة" على المخططات المعدة مسبقاً والجاهزة لمواجهة حالة اندلاع مواجهة شاملة في الضفة الغربية، وهي مخططات كان جيش الاحتلال قام العام الماضي بتدريبات لمواجهتها، وفق تقرير فيشمان.
ومع أن إسرائيل الرسمية لا تبدي أي موقف علني من الانتخابات الفلسطينية، إلا أن البعض يحذر من احتمال قيام أجهزة الاحتلال بتحركات، من وراء الكواليس، تهدف إلى الدفع بمرشحين تكون مهمتهم توتير الأجواء الداخلية في فلسطين وتأجيج المنافسة الانتخابية وصولاً إلى إثارة حالة فوضى عارمة، تكون إسرائيل المستفيد الأول منها. هكذا ستقول سلطات الاحتلال إن الفوضى المحتملة هي دليل على غياب حكم فلسطيني مركزي في الضفة الغربية، وغياب شريك فلسطيني لأي تسوية مستقبلية.
في المقابل، أشارت تقارير إسرائيلية أخيراً إلى أن الليونة التي يبديها ليبرمان في كل ما يتعلق بإقرار مشاريع بنى تحتية في مدن وبلدات فلسطينية، والتي تهدف ضمناً إلى الالتفاف على السلطة الفلسطينية، باتت تساهم اليوم في الواقع، بتعزيز مكانة هذه السلطة، ولو مؤقتاً، لسد الطريق أمام فوز "حماس" في هذه الانتخابات.
أما فيما يتعلق بالخطوات الأخيرة التي أعلنها منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، الجنرال بولي مردخاي، ومن ضمنها فتح صفحة تواصل مباشرة مع السكان الفلسطينيين في السابع من شهر أغسطس/آب الجاري، فهي لا تعدو كونها استمراراً لنهج الإدارة المدنية ومنسق أعمال الحكومة الإسرائيلية، في العامين الماضيين، بالانفتاح على "السكان" بشكل مباشر. تجدر الإشارة إلى أن هذا الانفتاح الواسع أبدته السلطة الفلسطينية نفسها تجاه "ديوان" مردخاي، حين توجهت إليه في قضايا كثيرة. وتوج الانفتاح برسالة الشكر التي وجهها الوزير الفلسطيني، شكري بشارة، لوزير المالية الإسرائيلي موشيه كاحلون، في 25 فبراير/شباط الماضي، لتسهيل عملية تحويل استحقاقات السلطة الفلسطينية من الضرائب، وختمها بشارة برجاء نقل تحياته لمردخاي. إلى ذلك، فقد شجعت السلطة الفلسطينية، في سياق محاولات بناء الاقتصاد الوطني في الضفة الغربية، وتشجيع التعاون الاقتصادي مع إسرائيل، عدداً كبيراً من رجال الأعمال الفلسطينيين، لا سيما المقربين منها والذين يدورون بفلكها، على تعميق الاتصالات مع الجهات الإسرائيلية (التجارية والاقتصادية) المختلفة، علماً بأن هذه الاتصالات ما كانت لتتحقق بدون عبورها بمكتب مردخاي.
على الرغم من كل ذلك، فإن وقع الانتخابات البلدية وما تشهده الضفة الغربية من حالة غليان، يعززان لدى الاحتلال الإسرائيلي الاعتقاد بأن السلطة الفلسطينية، التي سبق أن نعاها كثيرون، قد تبقى البديل الأفضل من أي مشهد سياسي فلسطيني مقبل، قد يزيد من متاعب الاحتلال ويذهب في الضفة الغربية إلى حالة مواجهة شاملة معه. وعليه يمكن القول إن المخاوف الإسرائيلية لا تقف عند حد انتصار مرشحي "حماس" في الانتخابات البلدية، وإنما تتجاوز ذلك لجهة محاولة استشراف نتائج ذلك، وانعكاس انتصار كهذا على مستقبل السلطة الفلسطينية، في سياق الاتجاه نحو المطالبة بانتخابات فلسطينية عامة لرئاسة السلطة، تمهيداً لبسط سيطرة "حماس" لاحقاً على منظمة التحرير ومؤسساتها.
ومع أن إسرائيل تكتفي حالياً بموقف معلن بعدم التدخل الفعلي، إلا أنها قد تتدخل لجهة إشاعة الفوضى والتقاتل الداخلي في الأيام التي تسبق الانتخابات، لا سيما في القرى والبلدات الصغيرة الواقعة ضمن المنطقتين "باء" و"سين"، حيث لا سلطة حقيقية للحكومة الفلسطينية، وحيث يتحرك الجيش الإسرائيلي وعناصر الاستخبارات الإسرائيلية "الشابك"، بحرية كبيرة في هذه البلدات. وقد يكرر هؤلاء نفس الدور الذي لعبه أسلافهم في إشعال الفتنة الأولى بين حركتي حماس وفتح عام 1993 في غزة. وهدف ذلك يتمثل في الوصول إلى وضع يسمح لإسرائيل بإلغاء الانتخابات في هذه القرى تحت ذريعة ضبط الأمن ومنع الفوضى الأمنية في المناطق الخاضعة لسيطرتها الأمنية بموجب اتفاقيات أوسلو (1993).