ورغم بداية الخطاب الثورية التي استلهمها من قصيدة مظفر النواب المشهورة، حين قال عباس إن "القدس عروس عروبتكم"، فإن توغله في التاريخ، وابتعاده عن أي قرارات أو رؤية واضحة لمواجهة قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس المحتلة "عاصمة" لإسرائيل، أوصل رسالة واضحة بأنه لا يوجد خط سياسي جديد للقيادة، إذ إن اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني يأتي بعد نحو 40 يوماً على قرار ترامب.
ورغم أن عباس قال من دون مواربة إنه لا يملك "حلاً"، مطالباً "المجلس المركزي بالتفكير في حل" لعدم تنفيذ 86 من قرارات مجلس الأمن الخاصة بالقضية الفلسطينية، فإنه حاول عبر استعادته لتراث الحركة الوطنية الفلسطينية في هذه المرحلة بالذات، استلهام الخطوات الأولى لمنظمة التحرير في فرض أمر واقع على العرب، عبر الاعتراف بالمنظمة الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين. ووجه أبو مازن رسالة مبطنة إلى العرب، قائلاً "ترى اللي ما بيجي ع قد الأيد... بروح". ورد عباس على قول أحدهم في القاعة له "دير بالك"، بالقول "أنا ما عادت تفرق (معي)، هلأ (الآن) دور الشباب". وأضاف "هناك محاولات بسيطة هذه الأيام لبيعنا وشرائنا... نحن قادرون عليها". وقطع عباس الطريق على الدول العربية التي تسعى للتطبيع مع إسرائيل، مؤكداً "التمسك بالمبادرة العربية كما وردت بالترتيب: حل قضيتنا أولاً وبعدها التطبيع"، مضيفاً "لا نأخذ تعليمات من أحد، ونستطيع أن نقول لا لمن كان، قلنا لا لترامب ولغير ترامب"، لكنه عبر، أكثر من مرة، عن امتعاضه من الإدارة الأميركية، بالقول "يخرب بيتك يا ترامب. متى رفضنا" المفاوضات؟
وأنفق عباس نحو ساعتين وهو يتحدث عن إرهاصات ولادة الحركة الصهيونية، والاستعمار الذي خطط ومهد لقيام دولة إسرائيل، إذ بدأ بسرد تاريخ طويل ومليء بالأسماء والتفاصيل قبل أن يصل إلى المرحلة الحالية، مؤكداً مراراً وتكراراً عدم تنازله عن أي من الثوابت، وتمسكه بقرارات المجلس الوطني في العام 1988، متحدياً بشكل قطعي كل من يتهمه بأنه "قدم تنازلات" عبر المفاوضات، إذ أشار إلى "جلسات أسبوعية في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي (الأسبق)، إيهود أولمرت، أفضت لنوع من التفاهمات وليس اتفاقات مكتوبة، فضلاً عن لقاء في بيت رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، شارك فيه من الإدارة الأميركية في حينه جورج ميتشل وهيلاري كلينتون. وكان اللقاء الأخير في بيت نتنياهو بعد أن طلب من عباس أن يبقى على الحدود الشرقية للضفة الغربية مدة 40 سنة". وأكد عباس في خطابه على بعض النقاط الواضحة، قائلاً "لم أتنازل، وقرارات الشرعية قائمة، ولا يستطيع أحد التنازل عنها، بلا صفقة العصر، بلا صفقة الظهر هاي". وكرر أكثر من مرة "لا نقبل أميركا وسيطاً بعد ما قامت به نحونا. ولا يلدغ المؤمن مرتين، ونحن لدغنا مائة مرة". أما حول أوسلو، فأكد عباس "أن إسرائيل أنهت أوسلو، ولا يمكن القبول بأن تبقى السلطة بلا سلطة والاحتلال بلا كلفة"، لكنه لم يقدم أي حل، إذ خاطب المجلس قائلاً "من القرارات التي يجب أن تؤخذ، وين رايحين؟".
وقال الكاتب والمحلل هاني المصري، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك مقدمات جيدة، ولكن النتائج ليست منسجمة مع المقدمات. الرئيس اعترف بفشل هذا الطريق، أي أوسلو، لذلك يجب أن يعترف أن هناك طريقاً ثانياً وأن يعمل به، لا أن يهدد به فقط. وإذا كان أوسلو فشل، فإنه يجب تجاوز كل التزاماته". وأضاف "عباس تحدث عن تعليق الاعتراف بإسرائيل، لماذا لا يكون إلغاءً أو سحباً للاعتراف. الرئيس تحدث عن المشروع الاستعماري في مقدمته التاريخية الطويلة، لكنه ما زال متمسكاً بأذيال التسوية. الخلاصة أن عباس غرق في التاريخ، وأهمل الحاضر، وتجاهل المستقبل".
وعلى عكس اعترافه بإنهاء إسرائيل لأوسلو وعدم امتلاكه أي أفق أو اقتراح لحل، جاء تمسك عباس بمواقفه المعروفة من محاربة الإرهاب والتأكيد على المقاومة السلمية، حين قال "لا أخجل أن أكرر مائة وألف مرة إنني مع المقاومة السلمية التي واجهنا الاحتلال بها خلال الأيام الماضية، وهي أقوى وأكثر تأثيراً من غيرها". لكن عباس بقي على موقفه الجذري ضد أي مقاومة عنيفة مشروعة للفلسطينيين، فضلاً عن تمسكه الشديد بالحوار مع المجتمع الإسرائيلي، قائلاً "هناك أشخاص مع السلام، وعلينا أن نجرب. عام 1977 وقفت في المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة لأتحدث عن هذا الموضوع، وسنستمر بهذه اللقاءات". وعبّر عن استغرابه لأنه لم يتم تنفيذ أي من قرارات مجلس الأمن الخاصة بالقضية الفلسطينية منذ القرار 181 الذي صدر في نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 وحتى اللحظة. وقال "لمن نشكي... أكيد نشكي لله.. بس تحت لا يوجد أحد. أنا ما عندي حل، وذلك يجب أن نفكر فيه. ولا قرار أممياً تم تنفيذه. لدينا 86 قراراً من مجلس الأمن و705 من الجمعية العامة، فيما استخدم الأميركيون حق النقض (الفيتو) 43 مرة ضدنا".
ولم يخلُ الخطاب من مناكفات سياسية، حين وصف عباس القيادي في حركة "حماس"، محمود الزهار، بأنه "يتساوق مع تويتر ترامب"، وأنه "أبو لسان طويل"، فضلاً عن اتهامه لقادة الجهاد الإسلامي بأنهم "لا يتحدثون ولا يقومون بعمل سياسي". ورد مسؤول المكتب الإعلامي لحركة الجهاد، داود شهاب، قائلاً إن "ما سمعناه في الخطاب الافتتاحي الطويل لاجتماع المجلس المركزي عزز من قناعتنا بأن إعلان عدم المشاركة في هذا الاجتماع هو الموقف الأسلم لصالح شعبنا وقضيتنا". وأضاف "ما سمعناه في افتتاح اجتماع المجلس المركزي يعطينا قراءة واضحة لما سيحدث في اليوم التالي، فخطاب رئيس السلطة محمود عباس مليء بالتناقضات وعدم الوضوح، فضلاً عن لغة تهكم غير مقبولة أبداً في العمل السياسي ولا العلاقات الوطنية". ورفض "تطاول أبو مازن على القيادي الزهار، أحد القامات الوطنية المعروفة". وكتب عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، رباح مهنا، على موقع الجبهة الإلكتروني، إن "خطاب عباس استغرق أكثر من ثلاث ساعات، معظمه جاء كدرس في التاريخ ولم يتحدث عن الموضوع الأساسي وهو موضوع القدس إلّا في آخر الجلسة، ولمدة دقائق". وأضاف "تحدث عباس، وكما هو متوقع، بصيغ مبهمة غير محددة، ولا تنسجم مع خطورة ما تتعرض له القضية الفلسطينية"، مشدداً "على ضرورة علاج هذا الخلل".