خطاب عباس.. اليوم

30 سبتمبر 2015
+ الخط -
ليس أغرب، مما قيل بلسان رئيس السلطة الفلسطينية، ثم ردده آخرون كُثُر، عن "مفاجأة" أو "قنبلة"، سيتضمنها خطاب الرجل اليوم، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. فقد بات بائع الترمس الفلسطيني، شأنه شأن عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وأمين عام الفصيل والإعلامي الذي يلاحق الخبر؛ في انتظار سماع "المفاجأة"، أو دوي "القنبلة".
ثمّة ما يُقال عن شروط وطبيعة المفاجأة نفسها، أو القنبلة، بشكل عام. فالمفاجأة تُفاجئ من حيث لا ينتظر الذي يُفاجأ، أما القنبلة، فهي كالقَدَر المستعجل الذي يباغت الناس فيما هم غافلون. وبالطبع، لا تسبق المفاجأة أية إشارة أو إعلان عن قرب وقوعها، وهي غير معرّضة لرصد الأقمار الاصطناعية، مثلما هي الأعاصير، لكي تتحضر لها الشطآن. وإن كان المعنى مجازياً، فإن المفاجأة، أو القنبلة، لا تفصح عن نفسها مسبقاً، لكي يتولى المعنيون بإبطالها العمل على تجويفها ونزع صاعقها، أو تخفيف وقعها. لكن، هذا على أية حال ليس موضوعنا.
موضع الغرابة والطرافة يتعلق بالمنهج، فالرجل يفكر ويتصرف متحرراً من أي نسقٍ لإنتاج الموقف، يجتمع فيه وعليه قادرون على مناقشة الخيارات والسياسات، فيتقبلون فكرة أو اقتراحاً منه، أو يعارضونها بما يقنعه بالإقلاع عنها. فمنهج كهذا لا يحتمله حتى المقاول الحصري في الإنشاءات الهندسية. فإن كانت لدى الرئيس محمود عباس حلقة ضيقة يحادثها، كمن يحادث نفسه، أو لكي لا يحادث نفسه؛ فإن شرط تقبلها في مجلسه هو أن تطاوعه، وأن تمتدح أفكاره، وتزيد عليها ما يرتاح إليه. وإن أضمر أمراً استثنائياً، فإنه يتكتم على موضوعه، وربما يفاتحهم في جوانب تتعلق بأطرافه. معنى ذلك أن الفلسطينيين، على الرغم مما كابدوا وضحّوا، ويكابدون ويضحّون، ليس لديهم منظومة عمل سياسي فاعلة، لها أصول وفروع ومحددات، لا يحق لعباس أو لغيره أن يتخطاها.
ولكي يؤمّن الرجل لنفسه مثل هذا التفرد، فإنه يستمسك بعروته الوثقى، وقوامها رمي من ينتقدون، أو يعارضون، إلى الهامش المهمل، أو إجراء إداري بالفصل والقطع، لا يستند إلى أي مسوّغ قانوني، ويكون لظلال القبضة الأمنية الداخلية تأثيرها، لضمان الصمت والرضوخ للمقادير، حتى لم يعد أحد قادراً على تذكير عباس أن ليس من حقه تقرير مصير الفلسطينيين في السياسة والإدارة، وفي أمر وحدتهم الوطنية، ولا في شأن رفع وتيرة الاجتماع السياسي، وكسب تأييد الكتلة الشعبية للممسكين بدفة السفينة.
أية "مفاجأة" هذه التي بشّر بها عباس؟ كيف ولدت، ومن الذي اعتمدها وأجازها، وكيف بات من حقه أن يطرحها من موقع تمثيل الفلسطينيين؟ وأين هم ومن هم، شركاؤه في صياغتها، حتى لو كانت صائبة وتستحق الثناء؟ أهذا هو وضع حركة التحرر الفلسطينية المعاصرة، بعد نصف القرن من نضالها؟
الشرعية التي يستند إليها أي قائد فلسطيني، ويقيس عليها مواقف الوطنيين والعملاء، ويطرد من فردوسها من يخالفون قواعدها؛ لم تقم، في أي يوم، على التفرد، ولا على شطب مؤسسة التشاور الحقيقي مع شركاء مقتدرين، ولا على ارتهان مصيرها ورخائها لشرط التنسيق الأمني مع العدو، ولا على انسداد أفق الإصلاح على أي صعيد، ولا على ذم المقاومة في أي ظرف وبأي أسلوب، ولا على خسارة الكتلة الشعبية وجفائها حيال رأس هرم كيانها السياسي. فلا يصحّ، ولا يحق، استخدام كلمة "الشرعية" بدون تلبية شروطها. ثم إن الشرعيات تنبض، وتتجدد خلاياها، وهي ليست حجارة. ففي تعريف النظرية السياسية للكيانية الوطنية، ثمة أسس لا تتحقق الدولة أو الكيانية بدونها، منها أن تكون الدولة التي تتوافق عليها الجماعة حَكَماً نزيهاً بين الناس، تحتكر الحق في الإكراه، نيابة عن المجتمع ولمصلحته، وبالقانون، بصرف النظر عن الأشخاص الطارئين الذين يتولون مقاليد المسؤولية فيها.
هذا، باختصار، وجه الاعتراض على المنهج الذي سمح لعباس بأن يلمّح إلى "مفاجأة"، قد تكون أو لا تكون، في خطابه اليوم.