خصخصة الثقافة

12 مايو 2016
+ الخط -
أحد التناقضات الطريفة في المشروع الإصلاحي للحكومة السعودية أنها بينما تقدّم إصلاحاتها الاقتصادية على شكل تقليص حجم الحكومة، وانسحابها من قطاعات كثيرة مكلفة في تشغيلها، كالتعليم والصحة، وتحويلها إلى قطاع خاصّ، فإن إصلاحاتها "الثقافية" تنبني على مزيد من التوغّل الحكومي في المجال الثقافي، ومزيد من المؤسسات والمسؤوليات والإشراف والإنفاق الحكومي على الـمُنتجات الثقافية. يُشير إلى هذا الإعلان عن تأسيس هيئة الثقافة، الحكومية، الأسبوع الماضي، إضافة إلى ما ورد في "رؤية 2030" حول برنامج "داعم" المخصص لتوفير الدعم المالي للأنشطة الثقافية ورعاية شبكة الأندية الأهلية وتنظيم عملها بمزيد من القوانين واللوائح. لا يبدو أن هذا البرنامج مُختلف جوهرياً عمّا تمارسه (ومارسته) الحكومة عقوداً، مما تصفه بـ "رعاية الثقافة والمثقفين"، والتي أنتجت شبكات الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون وعشرات المطبوعات والبرامج التلفزيونية والندوات والمؤتمرات والوفود الثقافية، وهي مما يصلح موضوعاً للدراسة، بوصفها نماذج تاريخية لما يُمكن أن تفعله هيمنة السُّلطة على الثقافة.
المشكلة هي أن هيمنة السلطة على الحقل الثقافي قد لا تزيد السلطة القوية قوةً، لكنها حتماً تجعل الثقافة أضعف، أضعف من أن تعبّر عن الناس، وأضعف من أن تقنعهم أو تُعبّئهم أو تدهشهم أو تجذبهم، وحتى أضعف من أن تقوم بما تعتقد السلطة، مُخطئةً، أنه "دور الثقافة"، أي المساندة الناجحة للسياسات والخطابات الحكومية، فبقدر ما تطغى الهيمنة السياسية على الحقل الثقافيّ فإنه يفقد استقلاله وحريته ومعها صدقهُ وأصالتهُ وحيويته وقدرته على التفاعل بلا اصطناع مع كل عنصر في بيئته. بل إن في طبيعة الثقافة إنتاجاً وتداولاً ما يجعلها تقاوم الاحتكار والمأسسة التامّين اللذين تحلم بهما السلطة. عندما تحاول السلطة أن تحتكر الحقل الثقافي، عبر المراقبة المشدّدة على كلّ كلمة وفكرة وصورة وتعبيرٍ مُبدع، فإنها تفشل حتماً، لأنّ نسخةً ثقافيةً مُقاومة تنتعش في الظلّ وتزدهر على الهامش، وعندما ترغب السلطة في تحويل الثقافة إلى مؤسسة رسمية ذات هيكل إداريّ ولوائح وموظفين، تُعارضها الحيوية الطبيعية للثقافة غير الرسمية التي لا تتوقف لحظةً عن التفاعل والتطور والابتكار وإيجاد طرقها ومساحاتها الخاصة. هذه التعارضات واضحة جداً في الحقل الثقافي السعودي بين خطوط الإنتاج الثقافي الرسمية وثقافة الهامش المنبوذة الموصومة بالانحطاط والابتذال والمروق، وتلك التجارب التي تنجح جماهيرياً، وتفرض نفسها، فتجتهد الثقافة الرسمية في احتوائها وتهذيبها تمهيداً لاستخدامها.
الهيمنة الممتدة والقديمة على الحقل الثقافي، والتي تصفها الحكومة بـ "رعاية الثقافة واحتضان
المثقفين"، مارست تنشئة ثقافية لطبقة من العاملين في الحقل الثقافي، لا يتصورون للثقافة وجوداً خارج مظلة السلطة، ولا للثقافة غايةً سوى ترويج المشروع السياسيّ الراهن، أياً يكن عنوانه، الإصلاح، الإرهاب، الحرب، مكافحة المخدرات، إلخ. كان الإعلان عن تأسيس "هيئة للثقافة"، الأسبوع الماضي، فرصةً جيدةً ليُفصح الفاعلون الثقافيون عن تصوراتهم، لا حول ما يمكن أن تكون عليه الهيئة، ولكن حول أنفسهم والثقافة والسلطة. احتفل بعضهم بالهيئة على أساس أنها "ستُنهي البيروقراطية والروتين في العمل الثقافي" الذي يبدو أنه، في مُخيّلتهم، لا يختلف جوهرياً عن عملٍ مثل جرد المستودعات، كل أزمته تتمثل في البيروقراطية والروتين، وكل الحلّ في تجاوزهما، حيث ليس للمحتوى هنا وزن، ولا أهمية لشروط إنتاجه. المهم فقط إنتاجه بسرعة وسلاسة وكثافة. وقدّم آخرون جواباً من نوع "دعم المثقف السعودي لتمثيل الوطن تمثيلاً مشرّفاً في الداخل والخارج"، معبّرين عن ذهنية المثقف - الموظف، أو المثقف مندوب المبيعات الذي يشعر أن الممارسة الثقافية تتمثل في بيع العناوين السياسية وترويج مقولاتها الكبرى. ويتطلّع الجميع تقريباً إلى التمويل الحكومي، مع إنكارٍ أو تجاهل للارتباط الثابت بين التمويل والمحتوى.
هناك عملٌ إصلاحيّ وحيد، يمكن اتّخاذه في مثل هذه الحالات، وهو، على غرار الإصلاح الاقتصادي، انسحاب الحكومة وتراجع دورها في الحقل الثقافي، لتحتفظ بالحدّ الأدنى من الوجود فيه، وتتركه للميل الإنسانيّ الطبيعي إلى التعبير والإبداع، وللقدرة الاجتماعية التي تتوفر في كل المجتمعات، بلا استثناء، على تطوير نماذجها الثقافية الخاصة وحواضنها ومبادراتها، وهذا هو الإصلاح الذي تخلو منه الخطط والتغييرات الأخيرة، ما يعني أنها لا تختلف، جوهرياً، في شيءٍ عن موقف السلطة التقليدي القديم من الثقافة التي لم تكن، في الحقيقة، مُعاقةً في أيّ مرحلةٍ بسبب ضعف "رعاية" السلطة، بل بسبب فرط هيمنتها.
@Emanmag
avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع