جاء الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز، رافعاً شعار مكافحة الفساد في بداية حكمه، ووعد بوقف الفوضى ونهب المال العام والمحسوبية، إلا أن فترة حكمه التي امتدت لعشر سنوات، شهدت فساداً مستشرياً كشفته صفقات واتفاقيات عديدة لم تراعِ مصلحة البلاد، وفق تحقيقات رسمية.
وتسبب الفساد في إفلاس شركات عمومية، وضياع مقدرات البلد، وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، وارتفاع المديونية الخارجية بشكل كبير تجاوزت 100% من الناتج الإجمالي الداخلي، بعد أن استفادت الدولة من إعفاء للديون الخارجية في عام 2008 قبيل الانقلاب الذي جاء بولد عبد العزيز إلى السلطة.
ورغم القروض الكبيرة التي حصل عليها النظام السابق، إلا أن ذلك لم ينعكس على الاقتصاد، ولا على الظروف المعيشية للسكان، كذلك فإن العملة المحلية "الأوقية" فقدت ما يزيد على 40% من قيمتها خلال عشرية ولد عبد العزيز التي امتدت من 2009 حتى 2019.
وشهدت هذه الفترة تراجعاً كبيراً على المؤشرات الدولية كافة، لتتوج فترة حكمه بحصول موريتانيا على المرتبة قبل الأخيرة حسب مؤشر الانفتاح الاقتصادي، الذي يصدره معهد "ليجاتوم" البريطاني، حيث حلت في الدرجة الـ 149.
واتهمت منظمة "شاربا" الفرنسية، المختصة في مكافحة الجرائم الاقتصادية، في تقرير لها نهاية 2017 نظام ولد عبد العزيز برعاية الفساد، مشيرة إلى أن فترة حكمه شهدت ما سمّته "الانتشار الوبائي للرشوة والفساد في موريتانيا".
حكومة الرئيس السابق منحت شركة مطارات أبوظبي، عام 2018 صفقة تسيير مطار نواكشوط الدولي لمدة ربع قرن، وهو الاتفاق الذي ستخسر بموجبه شركة مطارات موريتانيا عوائد مالية ضخمة، وفق التحقيقات.
واتهمت المعارضة الموريتانية ولد عبد العزيز بالفساد والأحادية في التسيير، وبالسير باقتصاد البلد نحو الانهيار، وطالبت بتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في فترة حكمه بعد مغادرته للسلطة، لتُحيل اللجنة، قبل بضعة أسابيع، تقريرها على وزير العدل الذي أحاله بدوره على القضاء.
وبدأ التحقيق الابتدائي في جميع الملفات، حيث استدعت شرطة الجرائم الاقتصادية من شملهم التقرير من وزراء سابقين ومسؤولين سامين في نظام ولد عبد العزيز، الذي أُوقِف هو الآخر، والتحقيق معه من طرف شرطة الجرائم الاقتصادية، لثلاث مرات الشهر الماضي، اعتُقل في إحداها لمدة أسبوع.
وقال نائب رئيس لجنة التحقيق البرلمانية، الصوفي ولد الشيباني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن جميع الملفات التي شملها تحقيق اللجنة والتي بلغ عددها 12 ملفاً، احتوت على خروقات، وأُحيلَت جميعاً على القضاء، باستثناء ملف واحد، سجلت فيه مخالفات ذات صبغة إدارية، جرت المطالبة بمعاقبة مسبّبيها، وهو صندوق العائدات النفطية.
وكشف تقرير اللجنة البرلمانية عن أن الصفقات التي تمت خلال فترة حكم الرئيس السابق شهدت خرق الكثير من القوانين واللوائح التنظيمية، وأوصت بإلغاء أو مراجعة الاتفاقيات مع المستثمرين الأجانب في بعض الملفات التي شملها التحقيق، كصفقة رصيف الحاويات والمحروقات في ميناء نواكشوط، وهي الصفقة التي منحت لشركة هندية على صلة بصهر الرئيس السابق ولد عبد العزيز، لمدة 30 عاماً مقابل استثمار يصل إلى 390 مليون دولار فقط.
كذلك طالبت اللجنة في تقريرها بإلغاء أو مراجعة معاهدة الاستثمار المثيرة للجدل مع شركة "بولي هوندونغ" الصينية التي تتهم بالتسبب في كوارث بيئة خطيرة.
وكانت محكمة الحسابات الموريتانية قد أوضحت في تقرير صادر عنها في ديسمبر/كانون الأول 2019، أن شركة "بولي هوندونغ" لم تحدد الكميات والأنواع من الأسماك التي تُصطاد، وهو الأمر الذي يخالف القانون الموريتاني، كذلك فإنها لم تفِ بالتزامها استثمار 100 مليون دولار، وخلق 2500 وظيفة لليد العاملة في موريتانيا. وتُتهم جهات نافذة في النظام السابق بتقديم تسهيلات للشركة الصينية، مقابل رشى تدفعها الشركة للنافذين.
ترك ولد عبد العزيز الدولة الموريتانية على حافة الانهيار الاقتصادي، باعتراف رئيس الحكومة السابق إسماعيل ولد الشيخ سيديا، حيث صرح أمام البرلمان الموريتاني في 31 يناير/ كانون الثاني الماضي، بأن الخزينة العامة للدولة في يوم وصول الرئيس الحالي محمد ولد الغزواني إلى الحكم في 31 يوليو/ تموز 2019، كان رصيدها 2.6 مليار أوقية (72.2 مليون دولار)، 18 مليون دولار منها إعانة من البنك الدولي، مضيفاً أن حكومته وجدت الخزينة مطالبة بسداد 200 مليار أوقية، أي ما يزيد على نصف مليار دولار.
وحول تقديره لحجم خسائر الاقتصاد الموريتاني جراء الفساد، قال نائب رئيس لجنة التحقيق البرلمانية، ولد الشيباني، ان لجنة التحقيق لم تتوافر لديها معطيات محددة عن حجم الخسائر التي تكبدها الاقتصاد نتيجة الفساد وسوء التسيير الذي شهدته فترة ولد عبد العزيز، ولكن يمكن التأكيد أن اقتصاد البلاد كان يخسر على عدة مستويات.
وأوضح أن الاقتصاد كان يخسر من خلال تضخيم تكاليف إنشاء المشاريع والمرافق، وأيضاً على مستوى تنفيذ المشاريع، حيث يجري تنفيذها بمواصفات رديئة وسيئة، ما يجعلها تتلف بسرعة، وتتكبد الدولة من جديد أموالاً ومصاريف في صيانتها وإصلاحها، بالإضافة إلى خسائر البلاد على مستوى فقدان جزء كبير من الأموال التي كانت تحصل عليها كتمويلات خارجية، حيث تذهب في إطار العمولات وتضخيم تكاليف المستوردات التي يجري شراؤها من الجهات المانحة.
وتوقع نائب رئيس لجنة التحقيق البرلمانية، حدوث تسويات في القضايا المنظورة حالياً أمام القضاء. وقال المصدر لـ"العربي الجديد" إنه "من المتوقع أن تؤول الأمور في النهاية إلى نوع من التسويات يتم بموجبها إرجاع بعض الأموال ممن تثبت عليه حيازتها بطريقة غير قانونية.
وقال إنه "قد لا يتم تطبيق الجوانب الأخرى الجزائية إلا في حدود ضيقة وفي الحالات التي لم يتم التوصل فيها إلى تسوية بخصوص ملف معين".
وأشار إلى ضرورة الابتعاد عن الانتقائية في محاسبة المتهمين بالفساد، موضحا أنه رغم إقالة الحكومة وتعيين أخرى بسبب ورود أسماء بعض الوزراء السابقين في ملفات التحقيق، إلا أن بعض المسؤولين لا يزالون في مواقع حساسة ولم يتم إبعادهم حتى الآن عن وظائفهم مع أنهم مشمولون في ملفات الفساد ومعنيون بشكل مباشر عن بعضها.
وتابع أنه إذا آلت الأمور إلى تسوية يتم بموجبها إرجاع بعض الأموال المنهوبة، فإن ذلك رغم أهميته لن يشكل رادعا مهما في المستقبل يحول بين المسؤول وهذا النوع من أساليب الفساد، كما أن التسويات ستكرس أسلوب التفاهم والتعامل مع المفسدين.
ويؤكد خبراء الاقتصاد أن فترة حكم الرئيس السابق شهدت إفلاس عدة شركات عمومية، وارتفاع ديون شركات أخرى، ما كلّف الدولة عشرات المليارات التي أنفقتها لتسوية وضعية تلك الشركات.
وتُعَدّ الشركة الموريتانية للاستيراد والتصدير "سونمكس" من أهم الشركات التي أفلست خلال العشرية المنصرمة، حيث أُعلنَت تصفيتها مطلع عام 2018، على الرغم من أن رأس مالها أيام وصول ولد عبد العزيز إلى السلطة ناهز 1.7 مليار أوقية.
ووصلت الشركة الموريتانية للكهرباء هي الأخرى إلى حافة الانهيار بعد أن بلغت ديونها خلال فترة حكم ولد عبد العزيز 5.9 مليارات أوقية، فيما واجهت خسائر تزيد على 2.7 مليار أوقية (75 مليون دولار)، ودفعت الدولة الموريتانية مليارات الأوقية لتسديد ديون الشركة.
وتتمثل أكبر الخسائر التي تكبدها الاقتصاد الموريتاني خلال فترة حكم ولد عبد العزيز في التوقيع على اتفاقيات طويلة المدى مع شركات أجنبية تتولى بموجبها تسيير مطار وميناء نواكشوط.
يتعلق الاتفاق الأول بشركة "مطارات أبوظبي" الإماراتية، التي منحتها الحكومة عام 2018 صفقة تسيير مطار نواكشوط الدولي لمدة ربع قرن، وهو الاتفاق الذي ستخسر بموجبه شركة مطارات موريتانيا عوائد مالية ضخمة، كذلك ستضطر شركة "الموريتانية للطيران"، بموجب الصفقة إلى دفع 120 مليون أوقية سنوياً للشركة الإماراتية.