لعلّها الخريطة الأشهر في العالم. لكن ذلك لا يعني تطبيق "غوغل" للخرائط في شيء. كنّا شهدنا هذه الأيام جدلاً عربياً حول إخفاء اسم فلسطين من الخريطة، لكن الحقيقة أنكى: لم يحدث أن وضعت "غوغل" اسم فلسطين على خريطتها يوماً، بل اكتفت بـ"الضفة الغربية" و"قطاع غزة" و"إسرائيل". هل يختلف ذلك عمّا يحدث على الأرض (توسّع استيطاني) أو في كواليس السياسة ("صفقة القرن")؟ كلها ألاعيب جهنّمية لابتلاع الأرض والناس.
حيال تداول خبر محو غوغل اسم فلسطين من الخريطة (بينما هو لم يظهر يوماً على خريطة محرك البحث الأشهر)، برزت ردّة فعل عفوية في البلدان العربية تناهض هذا التزييف، وهي ردة فعل تؤكّد أن خريطة فلسطين لا تزال تحتفظ بطاقتها الأيقونية في الضمير العربي. لا تزال الخريطة - كعلامة - تستدعي الفكرة والقضية والأرض والشعب. الخريطة وحدها دون إشارة أو توضيح أو شرح. هي مثل العلاقة بين صفحتَي ورقة واحدة، لا يمكن تمزيق إحداهما دون الأخرى، قياساً على المثال التوضيحي الذي ضربه عالم اللسانيات السويسري فرديناند دي سوسير منذ قرابة قرن لتوضيح العلاقة العضوية بين الدال والمدلول، أو الكلمة والشيء الذي تحيل إليه، في الذهن البشري. لكن هل يمكن أن نطمئنّ إلى كل ذلك؟
قطعاً لا، فما يفعله تطبيق الخرائط في غوغل غير بريء، وكل خيار تسمية في أي خريطة لا يمكن أن يكون بريئاً بحال، فالخريطة شاشة تنعكس فيها الحقائق السياسية والجغرافية والبشرية. لكن ليس الحقائق وحدها، بل قد تنعكس فيها التزييفات أيضاً. التزييفات التي تودّ أن تتحوّل إلى حقائق. جريمة "غوغل" مع خريطة فلسطين هي جزء مرئيّ من مجموعة اعتداءات هدفها دسّ طبقة من التزييف تغطّي الواقع وتساعد في إحلال المزيَّف مكانه ليأخذ مظهر الواقع، ثم يتحوّل واقعاً في النهاية في حال نجح في طمس الواقع الأصلي.
التلاعب بالخريطة هو أحد المداخل الممكنة لابتلاع الأرض والناس
إنها لعبة شرَحها، ونظّر لها، المفكّر الفرنسي جان بودريار (1929-2007)، خصوصاً في كتاب "المصطنع والاصطناع" (1981، مترجم للعربية في 2008)، ومن المصادفات أنه حين كان يفسّر كيف أن المصطنع يمكن له أن يحلّ محلّ الواقع، قد ضرب مثلاً بالخرائط حين تتحوّل إلى بديل عن المكان الواقعيّ، وقد يجري تصديقها أكثر من الواقع. كيف يحدث ذلك؟
الخريطة تجريدٌ اختزاليّ لمكان، وككل تجريد يتحوّل إلى وسيط يفرض شروطه بين الإنسان والعالم. تتحوّل بذلك الخريطة إلى مرجع يكفي التلاعب به كي يبدأ تحريف الواقع. وفي حال غفل الذهن عن هذه اللعبة، تبدأ الخريطة المصطنعة في الاندساس ضمن الواقع إلى أن تحجبه لندخل منطقة يسمّيها بودريار بـ"ميتا واقع".
كانت الخريطة مجرّد مثالٍ لتوضيح نظريّة الاصطناع، فيما اعتبر بودريار أن الميديا تمثّل المجال التطبيقي الأبرز لفكرته، حيث كثيراً ما يسهر الإعلام على دعم الواقع المصطنع ليأخذ مكانَ الأصلي. وبالعودة إلى قصة عدم وجود اسم فلسطين على الخريطة، فإن جريمة "غوغل" تظل في حاجة إلى دعم إعلامي وإلى عقول غافلة كي يجري إحلال المزيّف محلّ الواقعي.
كي لا يحدث ذلك ينبغي تفعيل الانتباه والتسلّح بأدوات فكرية لمقاومة التزقيم المعرفي، وخصوصاً شحن الارتباط بين فلسطين وخريطتها بالمعنى، عبر الفن والأدب والعلوم النظرية والإعلام. لعله من الممكن الحديث هنا عن "الردّ بالخريطة" كما كان إدوارد سعيد يتحدّث عن "الرد بالرواية" لكسر تزييفات السرديات المغالطة.