لم تكن زيارة الرئيس التشادي إدريس ديبي، إلى تل أبيب يوم الأحد، ولقاؤه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ورئيس دولة الاحتلال رؤبين ريفلين، لتتم الآن لولا موجة التطبيع والتسابق العربي للفوز باستقبال نتنياهو، وآخرها زيارة نتنياهو إلى مسقط، واستقبال وزيرة الرياضة الإسرائيلية ميريت ريغيف في الإمارات، والحديث المعلن إسرائيلياً عن تدشين علاقات دبلوماسية قريباً مع دولة البحرين. وكأن ذلك لم يكن كافياً، فقد استغل نتنياهو المؤتمر الصحافي المشترك مع ديبي، ليعلن عن زيارته القريبة إلى دول عربية أخرى، سارعت وسائل الإعلام الإسرائيلية بعد أقل من ساعة للقول إن إحدى هذه الدول هي السودان. وجاءت زيارة الرئيس التشادي إلى تل أبيب، بعد أشهر من الاتصالات المكثفة، علماً بأن محاولات استعادة هذه العلاقات قبل عامين من خلال زيارة لمدير وزارة الخارجية الإسرائيلية الأسبق، دوري غولد، قد باءت بالفشل، بسبب ما اعتبرته تشاد حينها توقيتاً غير موفق وغير مناسب، حتى بعد مشاركة نتنياهو في القمة الأفريقية لدول مجموعة غرب أفريقيا العام الماضي، ولقاءات القمة التي عقدها في كينيا.
وكان غولد قد اكتفى بعبارات قصيرة ليكشف أن اختيار نتنياهو وحكومته لدولة تشاد كدولة مرشحة لتحسين العلاقات معها، لم يكن عفوياً ولا من باب القبول بكل دولة تقبل بعلاقات رسمية مع إسرائيل فحسب، وإنما أيضاً لأسباب أخرى، أهمها موقعها الجغرافي السياسي، بما يعطيها أهمية استراتيجية، نظراً لتأثيرها المحتمل على الدول المجاورة. وقال غولد حرفياً: "عندما طالعنا الخريطة وشاهدنا شريط الدول المجاورة لها من غينيا وحتى السودان، قررنا العمل في هذه المنطقة، منطقة الصحراء والمغرب، وبعدما أنهينا اللقاءات مع رئيس الحكومة توجّهنا إلى عاصمة تشاد، ومن هناك سافرنا نحو 40 كيلومتراً إلى واحة في قلب الصحراء وأجرينا محادثات طوال يوم كامل".
وكان غولد يتحدث في إشارة إلى زيارته قبل عامين إلى تشاد، وكانت إسرائيل تأمل استعادة العلاقات مع تشاد آنذاك، لكن الظروف لم تكن "ملائمة". غولد أضاف أن اختيار تشاد كبلد مرشح لتكثيف الاتصالات لاستعادة العلاقات معه نابع أيضاً من "كونها دولة مهمة جداً في أفريقيا ولها مكانة باعتبارها ذات تأثير إيجابي وعاملاً للاستقرار في المنطقة"، وهو التقدير الذي تحظى به في كل أنحاء العالم وبسبب مشاركتها في قوات حفظ السلام الدولية.
وتشكّل تصريحات غولد هذه مؤشراً مهماً للدوافع والتطلعات الإسرائيلية لمكاسب مهمة من العلاقات مع تشاد، أولها بطبيعة الحال الفوز بشرعية "إسلامية" غير عربية من مجرد استعادة العلاقات بين البلدين، وتحييد تشاد في المحافل الدولية من الوقوف بشكل مباشر مع القضية الفلسطينية، سعياً للوصول إلى حالة تجنيدها كمعارضة لمقترحات مناهضة لدولة الاحتلال، أملاً في تجنيدها لصالح مقررات واقتراحات إسرائيلية.
وبات لتل أبيب جملة مكاسب تتصل بمد النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا الوسطى، بعدما أحكمت إسرائيل في الأعوام الأخيرة عملية اختراق أو احتواء بدأتها بسلسلة الزيارات الرسمية لوزير الأمن السابق أفيغدور ليبرمان ونتنياهو إلى دول القرن الأفريقي، ومن ثم الانتقال إلى العلاقات مع دول غرب أفريقيا وجنوبها، فيما ظلّت تشاد، قلب وسط أفريقيا، بعيدة عن دائرة النشاط الإسرائيلي، الذي يتضح الآن أنه لم ينقطع حتى بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1972، لكنه ظل خفياً أو غير منظور.
وتبدو المصالح الإسرائيلية واضحة في تشاد، بدءاً من الطمع الإسرائيلي بالوصول إلى مناجم اليورانيوم لاستغلالها بالصناعة النووية، ومروراً بالمصالح الاقتصادية المتمثلة بالصادرات الأمنية والعسكرية وبيع الخبرات الأمنية المختلفة بما يضمن المدخول الاقتصادي والمالي، الملازم في الوقت ذاته لتأثير سياسي كبير بفعل "ضمان استقرار أمن وحكم" الرئيس التشادي، إدريس ديبي الذي لم تتورع صحيفة "يديعوت أحرونوت" عن وصفه في تقرير على موقعها بالرئيس الطاغية الذي يمنع التظاهرات ويعتقل المعارضين.
كذلك، فإن تأمين دور إسرائيل في حماية الاستقرار لنظام ديبي، مصحوب بمكسب دعائي لإسرائيل في تكريس نفس معادلة "محاربة التطرف الإسلامي والخطر الإسلامي" (المعمول بها تجاه دول الخليج في مواجهة إيران)، باستغلال واقع تشاد وهجمات تنظيم "بوكو حرام" من الحدود مع نيجيريا، والتحديات التي تفرضها جماعات معارضة، بينها إسلامية من الحدود مع السودان.
وعند الأخذ بالاعتبار تصريحات غولد بشأن أهمية تشاد بفعل مكانتها الأفريقية ودورها في قوات حفظ السلام، يمكن القول إن زيارة الرئيس التشادي إلى إسرائيل تشكّل تتويجاً لما وصفته صحيفة "يسرائيل هيوم" بالربيع الإسرائيلي في أفريقيا، أو وفق عبارة نتنياهو نفسه أن "أفريقيا عادت إلى إسرائيل، وإسرائيل عادت إلى أفريقيا".
إلى ذلك، تنبئ الزيارة بمستقبل دافئ من العلاقات بين الطرفين، ستكون له تداعيات على المكانة الإسرائيلية في دول أفريقيا، وعلى رأسها النجاح الإسرائيلي في تفكيك "الكتل الدولية" المعارضة لإسرائيل بشكل تلقائي في المحافل الدولية، وتسهيل عملية قبول إسرائيل كعضو مراقب في الاتحاد الأفريقي، خصوصاً إذا شهد تطور العلاقات نمواً في المصالح المتبادلة، بما فيها إلى جانب تكريس استقرار النظام (وهو ما يبدو الدافع الرئيسي لديبي) والاستفادة من مشاريع تطوير، خصوصاً في مجال الزراعة والبنى التحتية والتكنولوجيا المتطورة التي تعرض إسرائيل تقديمها لتشاد. واستغل الاحتلال في العقد الأخير، ثورات الربيع العربي والحرب المضادة على هذه الثورات، وصولاً إلى تكريس انقلاب الرئيس الحالي في مصر عبدالفتاح السيسي، وانشغال الدول العربية بأوضاعها الداخلية، في تثبيت أنظمة القمع، لينطلق في مسيرة تجذير وجوده في أفريقيا، عبر مشاريع اقتصادية وتنموية من جهة، وتأمين السلاح والخبرات العسكرية والتكنولوجية في خدمة الأنظمة الأفريقية التي تعاني قلاقل داخلية وحكماً قمعياً، وصولاً إلى استمالة هذه الأنظمة لصالح دولة الاحتلال في ظل غياب عربي شبه مطلق.
ومنذ عودة نتنياهو إلى الحكم، لعبت دولة الاحتلال بورقة تضييق "نطاق وحجم النزاع الإسرائيلي العربي والفلسطيني" على القضية الفلسطينية، مع مساعي فك الارتباط بين الدول الإسلامية غير العربية، وبين الوطن العربي ككل، وتكريس تعزيز الهوية الأفريقية في الخطاب الإسرائيلي بمعزل عن الروابط مع العالم العربي، ووضع هذه الروابط في الدائرة الثانية لجهة أهميتها، في حسابات الدول الأفريقية التي شاهدت تراجع الدول العربية واستثماراتها في أفريقيا.