خرافة الكاتب

04 يونيو 2015
لا يجب أن تقرر الشرطة نوع الكتاب الذي سينشر
+ الخط -
لا أدري لماذا أحسست لوهلة أن ما سأكتبه تحت هذا العنوان سيقرأه كتّابٌ كثر، تربطني بهم صداقة، وبعضهم يرقد على الضفة الثانية من وجودي، بصفة أعداء متوارين أو أنصاف أصدقاء، يتلونون حسبَ الأهواء والمستجدات، أو كلما جاز لهم تبديل قناعهم بقناع آخر. إحساس قاد رجفة خفيفة إلى أصابعي التي بقيت للحظات تحاول فكَّ اللبس الحاصل بين أمرٍ بالكتابة وآخر بالعدول عنها، وكأنَّ تشظياً أشبه بالشلل، هو ما يمكن أن أرى فيه حالي الآن.

وبأي حال، فالعنوان هنا لايخص البتة موضوع الرابطة مع هذا الكاتب أو ذاك، لا في الصداقة ولا في العداوة، بل الأمرُ ينطوي على خرافة (الإعجاب المجاني)، يَصفهُ الكاتب كارلوس كاتانيا محاوراً إرنستو ساباتو: "يبدو الإعجاب تراخياً وغباء"، وبغياب الفعل النقدي الانطباعي الممكن قوله بـ (لا) في إشارة إلى الخلل وجملة الكتابة بكليتها، عندما تكون متخلفة، ورابضة في كهفها الذي لم تبرحه من سنين، وطاب لها ما وفرته كلمة الإعجاب بتراخيها وغبائها، فإنَّ التطييب الحاصل (التمريقة) من قارئ متابع أو صديق الكاتب نفسه، وقد يكون كاتبا بدوره، فإنّهُ يساهمُ في صنعِ الخرافة التي تصل حد التصديق، ولا ينظر إليها كفعل قادم من أغوار سحيقة، بحيث الممكنُ الدامغُ رؤيةَ منجز أحدهم كمن يُقايض عملة قديمة بسلعة من متجر حديث، ينزله بالدرجات الكهربائية، والبائعة تكتفي بعرضِ السلعة على جهاز صغير ليتفهمَ سعرها أو كميتها. هي الكهفية بعينها إذن قبل أن تكون الخرافة، إذ إن الخرافة لها شرطها الذي تنشأ وتعمل فيه، أما هنا فلا الشرط متوفر ولا المكان مكانها.


يأتي الأرجنتيني بتمريرة موفقة، فأرنستو ساباتو صاحب رواية النفق ليس لاعب كرة قدم كمواطنه مارادونا، غير أنه يهزُّ شباك القارئ، يقول: "عندما تقرر الرقابة، أو الشرطة، نوع الكتب التي تستحق أن تنشرَ، فإن النتيجة تكون مميتة دائماً، ونجد برهان ذلكَ في الابتذال الذي انتهى إليه الفن في المجتمعات الاستبدادية"، ونحنُ بالتأكيد كتّاباً وقراءً شئنا أم أبينا ضحايا هذه النظم أو المتعايشين معها كقدر لا فكاك منه، بخلاف المجتمعات التي دفعت بهؤلاء الضحايا ليقولوا في مصيرهم، وكلمتهم (لا) التالية لتحررهم من طاغية أو نظام سياسي ينتعش باستبداده واستلاب رعاياه، هذه (اللا) المنسحبةُ أفقياً على (لا) المختصة بأدب يفترض أنّه يسعىَ في التربية وشؤونها من تربية الذائقة إلى تربية العلاقة مع الزوجة وتنميتها بالنظر إليها ككائن له تجربة، تجاوزا للنظرة النمطية بوصفها مكان الحرث ومنطلق الخصوبة والتناسل مثلاً.

هذه اللا المختصة هي مقتصة أيضاً من حقبة لا يراد منها الرجوع إليها، وبالتالي فإن العامل الأدبي هنا سيجدّ لئلا يكونَ الذي كانَ، سيبدأ بتنميه القراءة الجديدة لذائقته، وتنميه تجربته، وتنميه معرفته بذاته من حيث هو ليسَ المنزَل ذاك الذي ذهبت إليه طويلا علامات الإعجاب، فصدقها وعاش في ظلالها بكسلهِ أو بانطلاء الخدعة عليه، إنَّ مجتمعاً تديرُ المخابرات اتحاد كتابهِ، الكتب التي يصدرها لن تكونَ كتبا أدبية بل أقرب إلى كتب الطبخ أو تعلم الإنكليزية في خمسة أيام أو التداوي بالأعشاب، وقد يقول قائل إنّ كتاباً جيدين، تحمّلتهم (المؤسسة) هذه، ليأتي الرد: الندرةُ التي دفشتها ظروف معينة لإصدار كتاب من خلالها، رأت فيما بعد أنَّ مقص مساعد الأمن فعل فعلهُ، وبدا العمل كما لو أنك أتيت بذئب أو نمر وقلعت أنيابه، فبدا في أحسن أحواله ككلب هرم، رابض في عتبة البيت، ينبح على كل من يمر دون أن يبرحَ مكانه، لعلَّ المثال فيه شيء من الشطط، لكن لا يحضرني الآن ما أعزز به كتابتي، فالفكرة الرئيسة فيما ذهبت إليه، تكمن بشدةٍ في التلقي الذي أمارسهُ حالياً، إذ طوّرت مفهوم فهمي للجديد بحسب قراءتي، المختلفة والمكتشفة، والآتية من مجاهل التكثيف والالتقاء بكتّاب ومنجز لم أعهدهما فيما مضىَ، جعلني أنظر إلى قراءاتي السابقة والتي شملت حتى فنون الطبخ ورسائل العشاق وأوراق صرّ السندويش بأنها لا تعدو كونها قراءة فحسب، فيها من الوظيفية الكثير، قبل أن تكون الحاجة إلى قراءة موازية وماتعة ومهذبة ومعلمة كما تفعل لي بعض القراءات هذه الأيام، الأيام التي أكتشف فيها نفسي بعد النزوح الكبير، والتشرد داخل روح لم تنفك عن حنينها، ورسم معالم العودة.

ربما هذا اللا استقرار بدوره، خلق ندية كبيرة بيني وبين المعجب الذي كان، ليقول من جديد (لا)، ويبررَ صدمتهُ غير المفتعلة، بل الصدمة الحقيقية الموازية للصدمة الحضارية لقادم إلى هذه الديار العجيبة المختلفة بكل شيء عن مراتع الطفولة والشباب. الكاميرا التي حملتها في بدء وصولي، ورحتُ أصور بها الشجر والحجر والأنهار، ولم أصور البشر، لظن آثم لديَّ أنهم يشبهوننا، ولا جديد في سحناتهم المختلفة عن سحناتنا، لأتبين فيما بعد أن الصدمة الحضارية ليست في المشاهد الكثيرة العابرة لشبكية العين، إنما تكمن في المشهدِ المسموع - الثقافة مدغومة بالتربية- الذي يمرُّ بالأذن والعين معاً، وبالتالي الرجفة التي جاءت أصابعي، هي رجفة تصيبُ جهاز المعرفة لديك ولديَّ.

نسفُ القراءة أولاً، أو لنقل نسف الكسل أولاً، هناكَ في البلد نُسفت البيوت والأرواح وصارت أثراً بعد عين، تلك الأسلحة التي نسفت هناك غير بعيدة عن الأسلحة التي نسفت منظومة القراءة الما(قبل) وأبقَت - ما يشبه - جداراً مهدّماً هنا وسقفاً متهاوياً هناك، وفي كلِّ الأحوال لا يمكنُ النظر إلى الهدم الحاصل هناك على أنه أفجعُ من الهدم هنا.

بكلِ الأحوال أيها الكتّاب الذينَ قرأناكم كخرافة، وصدّقنا ما أتيتم به على علاته، في وقت كانت قراءاتنا لا تتجاوز إبداعاتكم الرخيصة في سوق الكتابة العتيق، فاليوم ونحن أمام تحولات كبيرة سواء على صعيد أنفسنا أو على صعيد ظرفنا التاريخي والذاتي، فإننا نطالب باجتراحات جديدة، لا تشبهُ أبداً اللغة التي كتبتم بها خطاباتكم، وأقول خطاباتكم وليس كتاباتكم أو خطابكم الذي سيعني بحال المشروع والمسؤولية.

إنَّ الانفتاح على (ميديا) وتواصل عريضين، جعلَتا من انتقال المادة أمراً سهلاً، متاحاً، وكسرتا ذلك الاحتكار الفج لذائقتنا ومحاكمتنا التي سننعم بها اليوم اتجاه أي نصٍ بمعزلٍ عن تلك الخرافة/ السجن.

(سورية)
المساهمون