خرائط تمشي في رأسي!

04 يناير 2015
الكاتب المغربي أحمد المديني وجه عربي في باريس(فرانس برس)
+ الخط -
لا أميل إلى التأسّي، ولم أبك يوماً على طلل. 

قلبي على كفّي منقوع بأحزانه، لكن، بلا بلل. 

مذ ثلاثة عقود ونيف، وأنا مغروس في باريس، صارت أرضي، وهي بلاد الآخرين، نازعتهم فيها أمتاراً، بلادي صادرها الطغاة، السماسرة، والغلاة، فغادرت إلى رحاب فولتير، مونتسكيو، وفلوبير، أطعم من زادهم، وأتنفس من هوائهم، حقي في الحياة. طافحاً بها مشيت، في باريس ليلاً ونهاراً، بهياجي، بعجاجي، وأنين أجدادي، وحرقات أكباد،غدوت وسِرت. لم آت فاتحاً، ولا ملوحاً برايات الجهاد، ولا توهمت الغرب امرأة، سأفتحها فارساً أمخر عباب الفخذين، أنا ابن شداد(!). تحملتني هذه الأرض، علمتني، حضرتني، وكيف أصبح فيها المجنون الراقي، والكأس والساقي، وأن الحزنَ ثروةٌ، والحبَّ لوثةٌ، وأن لا بديل، رغم كل شيء، عن أمتي، تبقى أعز أشواقي. هنا صرت فرداً، فذاً، لا فردانياً وغداً، الكائن الواحد، وليس الأعزل المتوحد، وعِفْته هناك، ذاك، يحسب نفسه الأحد، الصمد. أبداً لم يفارقني وطني، فهو لي كظلي، يعاندني، يكابدني، متنازعاً بين الأسمر العربي الفاضح على وجهي، والأبيض الغربيِّ في فراشي، وحيثما أمشي، أستيقظ نافذتي مفتوحةٌ على العقل والوجود، والجمال. 
لا باريس طللٌ لي، ولا أنا الباكي، بل بتّ لوحَها تقرأ فيه ماضيها، وتاريخها تراه وشماً على جسدي، قد حسمت أمري، لا وهم لي، أضحت يومي وغدي، أغنمها كل لحظة بفيض دمي، وما أبغي لأمتي من سؤدد، أعرف تلوب أرواحُ أمس، ومن هناك، تباً لهم، يطاردوننا بأشباح النكد، وأنا تكفيني غيمة، ونافذة في القلب أفتحها متى شئت على بلدي، وكل خريف أتوضأ بألوانMANET تسلمني إلى ربيع MONET، قُضي الأمر، لقد طويت كشحي عن الكمَد. 

طريفاً جئت، قد تَلِدتُ هنا، إنما، غصنُ وردٍ ما انثنى. لو عددت أصحابي، شيوخي، فكيف بخلاّني، نُبغاءُ، فُضلاءُ،غانيات من إستبرق، هاماتُ كفاح، هم الشهداءُ، فكؤوس طِلى؛ أيُّ وجوه كالسَنا. أولهم أجدادي: محمد عبده، رفاعة الطهطاوي، وعلال الفاسي قبَسٌ من هنا. قادني طه حسين في ممرات السوربون، في مدرجٍ استقبلنا المعرِّي، نظرا إليَّ مليّاً، باركاني، ثم قالا: نقلدك الأمانة يا مديني، ألا احفظ مجلسنا. ثم تحضرني الأطياف تزكيني: جاك بيرك نناقش جنباً إلى جنب أطاريح العرب، وبعدها ننخب بأطيب العنب،أندري ميكل، شيخي الحبيب جمال الدين ابن الشيخ، بينما عقلي السديد(هو) محمد أركون،عبد المعطي حجازي ضائعاً في سان جرمان، ليكون، ومحمود. أ. العالم، يقتفي عبثاً خطو جان جوريس، ماركسيته المسكين فُتات كلام، يا محمود تُلام، نسيت أنك حر، حيث الحرية والمساواة، والأخوة، مثلما غفل العرب الآخرون، الغافلون، أن الحق لا يشترى، ولكن بالدِّما يفتدى، والحضارة مشعل في يدنا كان، قد أضعناه مثل كرامتنا. 
الباهي محمد يتقدمني حيث أسير، أراه يسبقني ليحوز الكتاب نفسَه، يضمُّه إلى صدره بعد القرآن، كتاب باريس، يتلوها مذهولا: "إنا أعطيناك الكوثر" ويعيد، وعبد الرحمن (منيف) منه يستزيد، وأخيراً قادنا،ِ سرناـ نحن ثلاثتُناـ لنُقصِّر يومَ الدَّجن، نحو مضارب تغلب النصرانية، ببهكنة تحت الخباء المُعمّد، منصوبة كما ينبغي لها، فوق برج إيفل، جذب الزّقّ إليه، ابن كلثوم، و"سقانا أربعاً في أربع". شوارعها محروثة بخطاه، و"السين" ما يجري إلا بذكراه، ماذا تعني باريس، وكل تلك الطرقات التي خاطها موديانو بإبرة السرد، ونسيج السحر، بدون الباهي، ومنيف أبي عوف؟!، ما باريس إن لم تعد جثة ابن بركة إلى جسد الشهيد، رقراقةً روحه كطفل وليد؟! ما أنتِ بدونها، أين أنت(؟!)عبرنا شغاف الليل، حبنا باهظ المشاعر يخترق تخوم السماوات، كيف بالمسافات. 
لكنني، من أمس إلى غد، لن أسلخ عني أبداً أرومتي، ولن أبيعها، هي بلا ثمن. جلست هذا الأسبوع إلى مجلس جامعي، أسمع مع آخرين إلى كاتب وافد من لبنان، يطرح أمام طلابنا فهمه للغرب وتجربته في الكتابة، وفي جمل متسارعة، أمام مترجِمه وناشِره، أجزلَ للغرب، طلباً لمزيد قرب، كل الشكر والثناء، فيما كال لنا، نحن العرب، الصاع صاعين، وبدون ذرة حياء، حتى وهو يكتب بعربية لا يفقهها. أحب أن أختم بأني لن أكون هذا العربي المُعار، ولا المستعار، فالغرب علمني أيضاً أن لا مساومة على الكرامة، ولولاها لكنت سرت في ركب النذالة، "وأذنه في يد النخاس"، مع الأتباع.. 


*كاتب وباحث جامعي
المساهمون