لن يبذل المتتبع لمشوار الروائية الكويتية، بثينة العيسى، كثير عناء حتى يدرك أنها غيّرت جلدها تماماً في عملها الأخير "خرائط التيه". بثينة، التي كتبت سبع روايات ومجموعة قصصية واحدة، لطالما كانت مهمومة في أعمالها بطريقة أو بأخرى بالأنثى التي تعاني تبعات تسلّط الرجل وذكوريته الطاغية، وقد نجحت في ذلك وحققت انتشاراً عربياً ملحوظاً، ربما لأنها فعلت ذلك عبر الفن، وليس بخطاب نسويّ مباشر وعالي النبرة. غير أنها، في نصّها الأخير، خاضت تجربة جديدة شائكة بدت فيها درجة التحدي عالية، سواء على مستوى أفق الحكاية أو مسرح الأحداث. لم يكن ذلك فقط في مدى التجربة الشخصية، بل وعموم مناطق الاهتمام الخليجي روائياً، على الأغلب. فالرواية تحكي قصة عائلة كويتية تفقد ابنها في الحرم المكيّ أثناء أداء فريضة الحج، قبل أن تكتشف تالياً أنه تم اختطافه من قبل عصابة متخصصة في اصطياد الأطفال من الأماكن المقدسة، لطلب فدىً أو استغلالهم في التسوّل. هذا الاكتشاف يقصّ شريط رحلة بحث طويلة تبدأ من مكة المكرمة باتجاه جنوب السعودية، ثم تعبر البحر الأحمر باتجاه أفريقيا ثم شبه جزيرة سيناء، يتخلّلها كمّ من الأوجاع وانعدام الأمل في مشاهد أقل ما توصف بالمرعبة، لم تسع الكاتبة إلى تخفيفها بل وضعتها بكامل قسوتها وحدّتها على الورق.
مسرح الأحداث العريض هذا وضرورة حضوره من الداخل بشكل مقنع بدا تحدياً شاهقاً، فالكتابة عن المكان من خارجه مغامرة قد تطوّح بالعمل في أول اختبار، غير أنّ العيسى تجاوزته باقتدار تبعاً لمستوى البحث والتدقيق الذي أجرته تحضيراً للنصّ، ويحسب لها في المقابل أنّها لم تتطرّف في حضور المكان كي تثبت واقعيته فنجت من الإغراق في التفاصيل واكتفت بالقدر الملائم لحاجة النص.
كما عمدت الروائية إلى تصدير الفصول بتأريخ اليوم وزمنه الدقيق، الذي يتحرك ببطء بالغ فيمعن في حضوره، وهذا وفق ظني خدم حالة التوتر المصاحبة للأحداث بشكل جيد، فالفواجع تمنح الوقت معناه القاسي فنشعر بوطأة كل ثانية خلالها. الاعتناء البالغ بالزمان والمكان، صاحبه اعتناء مماثل بنحت شخصيات العمل، التي كانت تتناوب على الإمساك بزمام الحكاية وهو ما تطلّب أن تحضر كشخصيات رئيسية تقود النصّ في مواضع ما، قبل أن تتوارى في مواضع أخرى لصالح شخصيات ثانية، وتصبح ثانوية تحيط وتدعم الحدث الرئيسي. كل ذلك كان يحدث ولا شكّ بوعي روائيّ عال، مكّن الأحداث من المضي قدماً بتضافر مدروس بين شخصيات الضوء والظل. ولعلّ أكبر دليل على ذلك أننا نستطيع أن نأخذ كل شخصية على حدة ونلاحظ ملامحها الفيزيائية أو الوجدانية التي تميّزها عن غيرها، وذلك الميلان التصاعدي الذي يصبغ حضورها في الحكاية. كما ساعد في منح الشخصيات العمق اللازم أننا لا نجد ضحايا دائمين ولا مجرمين دائمين، الجميع يتدرّج بين إنسانيته وجبروته، باستثناء الطفل المختطف مشاري، وحده كان الضحية البريء دائماً، وكأننا بمجرد تجاوز مرحلة الطفولة لا نعود أنقياء تماماً.
كما اعتنت بثينة العيسى جيداً بلغة النصّ، وقد كان مهمّاً أن تُبرز اللوعة والفقد لدى الوالدين، أو تلك القسوة التي تصاحب اختطاف الطفل. لولا ذلك لكان من الصعب أن ننتبه إلى الضعف والوهن حين يكونان قادرين على تفجير كل شيء، حين يصبح المرء عديم الحيلة يائساً ومخذولا، لا يعود يملك ما يخسره، حينها فقط يصبح أقوى من كل شيء حوله.
هذا العمل الملحميّ الذي أجادت الروائية كتابته، كانت إحدى روافعه المهمة أيضاً، برأيي، هي القدرة الكبيرة على التقمّص، إذ يبدو من العسير أن يتمثل الكاتب تلك اللوعة التي طبعتْ تصرفات الوالدين، وتلك اللامبالاة التي رسمتْ كل شيء حولهما من جهة، ومن جهة أخرى تبنيّ وجهة نظر الخاطفين ومبرراتهم وزاوية نظرهم للأمور.
كذلك انتبهت العيسى إلى كثير من التفاصيل وهي تحيك قصتها. لم تأخذها القصة الكبيرة اللاهثة بعيداً، فأحاطتْ نصّها بقصص جانبية كالظلال، لا تحضر بفجاجة، لكنها قوية التأثير.
يحضر الشك والإيمان، وتلك المسافة الغائمة بينهما تبعاً لمصاعب الحياة ومدى قدرة الفرد على التحمّل، لكنّ اللافت هنا أن مسرح حضورهما هو موسم الحج، وهذا دفع بالمفارقة إلى ذروتها.
يحضر أيضاً ذلك التديّن القشري حين نلاحظ كيف يجمع الآسيوي، الذي وجد الطفل ضائعاً، بين المحافظة الصارمة على أداء الصلوات، وبين اغتصاب الطفل مرات عديدة.
ولعلّ من المهم هنا الإشارة إلى أن خرائط التيه لم تنزلق إلى التسليم بالنمطية، التي نصنّف بها الجنسيات الأخرى عادة، فحضر الجميع ببشريتهم التي تراوح بين السموّ والانحطاط. هذا الحذر في النظرة إلى الآخرين أنقذ النص من فخّ ينصبه اللاوعي غالباً وقد لا ننتبه إلى وقوعنا في شركه.
(روائي إريتري)
مسرح الأحداث العريض هذا وضرورة حضوره من الداخل بشكل مقنع بدا تحدياً شاهقاً، فالكتابة عن المكان من خارجه مغامرة قد تطوّح بالعمل في أول اختبار، غير أنّ العيسى تجاوزته باقتدار تبعاً لمستوى البحث والتدقيق الذي أجرته تحضيراً للنصّ، ويحسب لها في المقابل أنّها لم تتطرّف في حضور المكان كي تثبت واقعيته فنجت من الإغراق في التفاصيل واكتفت بالقدر الملائم لحاجة النص.
كما عمدت الروائية إلى تصدير الفصول بتأريخ اليوم وزمنه الدقيق، الذي يتحرك ببطء بالغ فيمعن في حضوره، وهذا وفق ظني خدم حالة التوتر المصاحبة للأحداث بشكل جيد، فالفواجع تمنح الوقت معناه القاسي فنشعر بوطأة كل ثانية خلالها. الاعتناء البالغ بالزمان والمكان، صاحبه اعتناء مماثل بنحت شخصيات العمل، التي كانت تتناوب على الإمساك بزمام الحكاية وهو ما تطلّب أن تحضر كشخصيات رئيسية تقود النصّ في مواضع ما، قبل أن تتوارى في مواضع أخرى لصالح شخصيات ثانية، وتصبح ثانوية تحيط وتدعم الحدث الرئيسي. كل ذلك كان يحدث ولا شكّ بوعي روائيّ عال، مكّن الأحداث من المضي قدماً بتضافر مدروس بين شخصيات الضوء والظل. ولعلّ أكبر دليل على ذلك أننا نستطيع أن نأخذ كل شخصية على حدة ونلاحظ ملامحها الفيزيائية أو الوجدانية التي تميّزها عن غيرها، وذلك الميلان التصاعدي الذي يصبغ حضورها في الحكاية. كما ساعد في منح الشخصيات العمق اللازم أننا لا نجد ضحايا دائمين ولا مجرمين دائمين، الجميع يتدرّج بين إنسانيته وجبروته، باستثناء الطفل المختطف مشاري، وحده كان الضحية البريء دائماً، وكأننا بمجرد تجاوز مرحلة الطفولة لا نعود أنقياء تماماً.
كما اعتنت بثينة العيسى جيداً بلغة النصّ، وقد كان مهمّاً أن تُبرز اللوعة والفقد لدى الوالدين، أو تلك القسوة التي تصاحب اختطاف الطفل. لولا ذلك لكان من الصعب أن ننتبه إلى الضعف والوهن حين يكونان قادرين على تفجير كل شيء، حين يصبح المرء عديم الحيلة يائساً ومخذولا، لا يعود يملك ما يخسره، حينها فقط يصبح أقوى من كل شيء حوله.
هذا العمل الملحميّ الذي أجادت الروائية كتابته، كانت إحدى روافعه المهمة أيضاً، برأيي، هي القدرة الكبيرة على التقمّص، إذ يبدو من العسير أن يتمثل الكاتب تلك اللوعة التي طبعتْ تصرفات الوالدين، وتلك اللامبالاة التي رسمتْ كل شيء حولهما من جهة، ومن جهة أخرى تبنيّ وجهة نظر الخاطفين ومبرراتهم وزاوية نظرهم للأمور.
كذلك انتبهت العيسى إلى كثير من التفاصيل وهي تحيك قصتها. لم تأخذها القصة الكبيرة اللاهثة بعيداً، فأحاطتْ نصّها بقصص جانبية كالظلال، لا تحضر بفجاجة، لكنها قوية التأثير.
يحضر الشك والإيمان، وتلك المسافة الغائمة بينهما تبعاً لمصاعب الحياة ومدى قدرة الفرد على التحمّل، لكنّ اللافت هنا أن مسرح حضورهما هو موسم الحج، وهذا دفع بالمفارقة إلى ذروتها.
يحضر أيضاً ذلك التديّن القشري حين نلاحظ كيف يجمع الآسيوي، الذي وجد الطفل ضائعاً، بين المحافظة الصارمة على أداء الصلوات، وبين اغتصاب الطفل مرات عديدة.
ولعلّ من المهم هنا الإشارة إلى أن خرائط التيه لم تنزلق إلى التسليم بالنمطية، التي نصنّف بها الجنسيات الأخرى عادة، فحضر الجميع ببشريتهم التي تراوح بين السموّ والانحطاط. هذا الحذر في النظرة إلى الآخرين أنقذ النص من فخّ ينصبه اللاوعي غالباً وقد لا ننتبه إلى وقوعنا في شركه.
(روائي إريتري)