ختموا على جوازي، فرأيت وطني

19 سبتمبر 2015
+ الخط -
يقولون: لا يجوز على الإنسان أن يدخل فلسطين إلا إن كان فلسطينيّاً، "وذلك حتّى لا يدخل السّفارة الإسرائيلية فيُختم جوازه". لا يجوز لِمَن طرد من أرضه وهُجّر، أن "يختم" جواز سفره، ليرى بيته، أو آثار بيته. ولا يجوز للجيل الثّالث الآن أن يشمّ هواء فلسطين.
يقولون "حرام" فلسطين علينا إلا إنْ تحرّرت، حرام على كلّ عاشِق، على كلّ مشتاق، على كلّ لاجئ، إلا إن تحرّرت.
موضوع "فتوى" التّطبيع فيه اختلاف، فأرجوكم أرجوكم، لا تنتهكوا قلب إنسان اختار أن يخترق الحدود، ليصل إلى بيتٍ كان بيته. ولا تَسبّوا رجلاً وعد والده يوماً أن يصل إلى عكّا، وأن يمشي وأحفاده هناك، ولو يومين قبل العَودة إلى المَهجر.
وُلِدت أنا في القدس، وفي زيارتي الأخيرة إليها، اضطررت إلى طلب تصريح يسمح لي بدخولها من حاجز "قلنديا" العسكريّ الذي يفصل رام الله عن القدس. كيف أشرح لمن لم يدخل فلسطين شعوري في اللّحظة التي رُفض فيها طلبي للتّصريح؟ أو شعوري عندما وقفت أمام بوّابة كالزّنزانة أطلب من الجنديّ الاسرائيليّ السّماح لي بالدّخول؟ أطلب من الذّليل أن يُدخلني إلى حيث وُلدت. ومن معالم وجهه، أكاد أجزم أنني وُلدت هناك قبل أن يُخلَق هو، وقبل أن يهاجر والداه الأوروبيّان إلينا.
كان يفصلني عن فلسطين بوّابة، وحافلة يقودها فلسطينيّ يتحدّث العبريّة بطلاقة. كان يفصلني عن مكان أوّل نفس لي جنديّ مُحتلّ، وعشرات الرشّاشات. دخلت بعد ساعات من الانتظار، ووصلت إلى القدس.
دخول فلسطين على نفسي واجب، وعلى أبنائي فرض. من الطّبيعة البشريّة أن نرتبط بالأمر الفيزيائي أكثر من الوهميّ. عندما يعشق شاب فتاة عبر وسائل التّواصل الاجتماعي، ويراها وافقت أفكاره ودينه ومعتقداته، إن لم يجتمعا ولو للقاء واحد، فقد حُكِم على هذه العلاقة بالفشل. وهكذا القُدس، هي المعشوقة، مهما تحدّثنا عنها للنّاس، ووصفنا جمالها وهدوءها ورونقها، لن تشعر بِها فِعلاً إلا إذا دخلتها.
ونحن إن شعرنا بمن نحبّ حقّاً، دافعنا عنه حقّاً، وقاومنا لأجله حقّاً، وأنشأنا أبناءنا بين طيّاته حقّاً.
"البعد جفا"، لهذا نصوّر أفلاماً للاجئين الفلسطييين من المسنّين وهم يبكون، تُعجبنا دموعهم، لا نراها سوى في عيونهم، أتعلمون لِمَ؟ لأنّهم ذاقوا الجنّة، عاشوا فيها، قبل أن تُهدم جدران منازلهم على كلّ تاريخهم. أمّا دموعنا، فهي دموع شوق لا أكثر، دموع رغبة بحريّة لأمرٍ سمعنا عنه الكَثير ولكنّنا لم نلسمه يوماً.
الآن، تخيّل أنّك ابن القُدس، أكنت ستمشي سريعاً عن صور الانتهاكات الأخيرة؟ أم كنت ستتفحّصها شبراً شبراً، لترى أين جُرحت فتخرج وتضمّدها، وترى أين أصيبت فتعالجها؟ هي حبيبتك.
قرأت، قبل أسابيع، أن مجموعة من الطلاب حاملي الجنسية الأميركيّة تم منحهم هديّة "زيارة القدس في اسرائيل"، بهدف دراسة تاريخها، قبل أن ينطلق الطّلبة إلى جامعات حول الولايات المتّحدة، وينفثوا السُم. دولة الاحتلال تسمح بدخول مئات السيّاح سنويّاً من دون استجواب، بغرض تشجيع السّياحة الاسرائيلية، وكلّ زائر سيقول "كانت إسرائيل جميلة"، ونحن ما زلنا نقول "إذا بخِتِم، ما بدخل".
هل تعلم أنّ كل فلسطيني حامل للجواز الفلسطينيّ يختم جوازه أكثر من ثلاث مرّات، قبل أن يصل إلى فلسطين؟ وذلك من دون الاضطرار إلى المرور بسفارة الاحتلال. أذكر مرّة أن عنصر أمن فلسطينيّ نسي أن يختم جواز سفري، فأخبرته فردّ قائلا "ختمولك هُمّ؟ لأنّو ختمنا لا بيقدّم ولا بيأخّر. توكّلي على الله خيتي".
إن تركنا فلسطين لهم، ومنعنا الملايين الخمسة من دخول موطنهم الأصليّ، فقد حقّقنا للاحتلال ما يريد. سينسى الجيل، لن تعلق في ذاكرته سوى صور صمّاء كثيرة الانتشار. سينساها ولن تعلق في ذهنه إلا في عطلة الإسراء والمِعراج، سينساها ولن يتذكّرها إلا بعد أن يكون الأوان قد فات، فيأسف عليها.. قليلاً.
والآن، تخيّل معي لو أنّك كنت سفيراً إسرائيليّاً، وفي كلّ عام يقلّ أعداد من يطلب زيارة فلسطين تنفيذاً لبعض الفتاوى، ويقلّ العدد، ويقلّ.. ألا والله ستكون من المُحتَفِلين!
دلالات
A1291985-B5FB-4524-9E8F-4C9562143990
A1291985-B5FB-4524-9E8F-4C9562143990
آلاء حمدان (فلسطين)
آلاء حمدان (فلسطين)