13 نوفمبر 2024
خاشقجي وصُور الهوان العربي
تثير قضية إخفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي وقتله أسئلة كثيرة، انبرى الإعلام العربي والدولي، كلّ من وجهة نظره للقضية، لمحاولة الإجابة عنها، ولكن سؤالا محوريا لم تتم الإشارة إليه، وهو أن القضية تمثّل، من الناحية الرّمزية، وصول العرب إلى قمّة الهوان، ليتناسب معها كل ما يحدث لهم منذ عقود، ومنذ العام 2011 خصوصا، ويكون هو المؤشّر على صواب منطق التّعامل مع الإنسان العربي المرادف لكلّ ما هو سيئ (إرهابي، داعشي، عدّو لكل ما هو حداثي) وكلّ ما هو هيّن موصل إلى قتله، سجنه، نفيه أو الغدر به في كل مكان، بأية طريقة ومن الجميع.
بالغوص بعيدا في فهم ذلك الهوان، نذهب إلى ما هو أعمق من "صفقة القرن" التي تكاد تؤكد على الموت الثاني، بطريق الانتقام، لصلاح الديـن، وعلى ضياع القدس وفلسطين. وبالذهاب أيضا إلى فهم ذلك الهوان سنعلم لماذا صارت عاصفة حزم اليمن غزوا وتقاسما لبلدٍ كان يوصف سعيدا. لو حاولنا، من ناحيةٍ ثالثة، مقاربة شكل ذلك الهوان ومضمونه سنعرف كيف تحوّل ربيع العرب إلى شتاء إسلاموي، وكيف أتت عليه الثورات المضادة، وانقلبت، رأسا على عقب، كما ينقلب السحر على الساحر. ولعل أمثلة ليبيا وسورية وغيرهما أبلغ في الوصف من مليون كلمةٍ تُقال، أو مقالاتٍ تُكتب، مهما بلغ المرء مبلغه من البلاغــة وحسن الحديث أو الكتابة بلغة الضاد.
هانت الأمّة وهان معها الإنسان العربي إلى درجة أن دولا كثيرة كلها تستسهل إهانتنا، وتمارسها بصفة سادية معنا، لما تراه من "حسن" تعاملنا مع أنفسنا، حيث التّحريش والقتل فضلا عن الفتنة، لا تجد طريقها إلى الوحشية إلا بأيدينا. فلماذا نلوم إن ضاعت القدس أو تعس اليمن، مات السوري أو سُجن الليبي أو حتى إن غُيّب جمال خاشقجي وقُطّع؟
أريد عنوان المقالة مناسبة للإشارة إلى ما نحن العرب عليه من هوان، والسؤال: هل هو قمّة ما وصلنا إليه، أم أنّ ثمّة مآلا آخر ينتظرنا في سيرورة عملية تمكين صورة نمّطية للعرب
بمضمون سلبي لدى الغرب، بل لدى العالم بأسره؟ تحدّث بعضهم عن تلك الصّورة ومضمونها المتهالك، شيئا فشيئا، إلى أن بلغنا الحدّ الذي أصبحنا فيه، حتى عندما نُقتل بأبشع صورة، ومهما كانت مرتباتنا الاجتماعية أو وضعنا السياسي، لا أحد يهتم، بل قد يصل الأمر إلى أن تصبح قضايانا في ميزانٍ لا ترجح فيه أبدا، سيما إذا كان العامل المرجّح مشاريع بمليارات الدولارات، وذلك بمقياس ذلك الهوان وشراهة من عكسنا له تلك الصورة، على غرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ومصالح صفقات أدوات الموت التي تدر عليه أموالا كبيرة.
مؤلم ما وصلنا إليه من قمّة المهانة/ الهوان، وقد أصبحنا نستحي من السؤال عن أسباب الانحياز الغربي ضد قضايانا. ولكن عندما نرى ما حدث ويحدث في العالم العربي، نصل إلى قناعةٍ بأنّنا نحن من يمدّهم بالحجج القاطعة الداعية إلى ذلك الانحياز، بل الحجج للاستمرار في إيلامنا اشد الألم، وما لجرح بميّت إيلام.
قد تكون قضية جمال خاشقجي أكبر وأعمق، من حيث المعاني والرّمزية، من نظرية "نهاية التّاريخ" التي تعني، حقا، بالنسبة لنا، قمة الهوان وانطلاق شرارة إنهاء التعامل مع قضايانا في سبيل إنشاء نظام عالمي جديد، نشكّل فيه الاستثناء في كل شيء: لا معرفة، لا حقوق، لا ديمقراطية، لا فرصة للتغيير والتحوّل.. وإن حدث التحوّل، فسريعا ما يتم احتواؤه لينقلب ثوراتٍ مضادّة، انقلاباتٍ ومشاريع لتهديم الإنسان العربي، الدولة العربية، بل سبيلا لإدامة التعثّر.
قد تكون قضية جمال خاشقجي، أيضا، أشمل من نظرية "صدام الحضارات" التي تعني، في الحقيقة، فتح الباب على مصراعيه، لتزويد العرب بالسلاح للإجهاز، بصفة نهائية، على قضايانا، بأيدينا وليس بأيدي غيرنا، ممن كان يوصف بعضهم، إلى زمن قريب، بالأعداء ليُصبحوا، فجأة، من الأصدقاء، وتلتقي مصالحنا مع مصالحهم. إنه الانتحار، بعد قمة الهوان التي وصلنا إليها.
ولكن، في النهاية، ما سيولد من قضية خاشقجي هو فتح الباب للانتباه إلى حيوية تلك القضايا، وتكون سببا لإيقاظ الوعي بشأنها وشأن المتسبب الحقيقي في رزاياها... احترق محمد البوعزيزي في تونس، فانطلقت شرارة انتفاضة عربية واسعة، وبمجرد انطلاقتها حقّقت عودة الوعي، وذلك ما أخاف الجميع، وأعدّوا له العدّة، وليس ذلك إلاّ لخوفهم من مآل ذلك الوعي، وشدة أثره على توجّهات قضايا بحجم فلسطين، حقوق الإنسان، تحوّل العالم العربي وتغييره. ساهم جمال خاشقجي في ذلك، ولعلّه يكون سببا لتغيير مسار التعثر الذي أعقب أحداث ما بعد 2011، وإن غدا لناظره لقريب.
بالغوص بعيدا في فهم ذلك الهوان، نذهب إلى ما هو أعمق من "صفقة القرن" التي تكاد تؤكد على الموت الثاني، بطريق الانتقام، لصلاح الديـن، وعلى ضياع القدس وفلسطين. وبالذهاب أيضا إلى فهم ذلك الهوان سنعلم لماذا صارت عاصفة حزم اليمن غزوا وتقاسما لبلدٍ كان يوصف سعيدا. لو حاولنا، من ناحيةٍ ثالثة، مقاربة شكل ذلك الهوان ومضمونه سنعرف كيف تحوّل ربيع العرب إلى شتاء إسلاموي، وكيف أتت عليه الثورات المضادة، وانقلبت، رأسا على عقب، كما ينقلب السحر على الساحر. ولعل أمثلة ليبيا وسورية وغيرهما أبلغ في الوصف من مليون كلمةٍ تُقال، أو مقالاتٍ تُكتب، مهما بلغ المرء مبلغه من البلاغــة وحسن الحديث أو الكتابة بلغة الضاد.
هانت الأمّة وهان معها الإنسان العربي إلى درجة أن دولا كثيرة كلها تستسهل إهانتنا، وتمارسها بصفة سادية معنا، لما تراه من "حسن" تعاملنا مع أنفسنا، حيث التّحريش والقتل فضلا عن الفتنة، لا تجد طريقها إلى الوحشية إلا بأيدينا. فلماذا نلوم إن ضاعت القدس أو تعس اليمن، مات السوري أو سُجن الليبي أو حتى إن غُيّب جمال خاشقجي وقُطّع؟
أريد عنوان المقالة مناسبة للإشارة إلى ما نحن العرب عليه من هوان، والسؤال: هل هو قمّة ما وصلنا إليه، أم أنّ ثمّة مآلا آخر ينتظرنا في سيرورة عملية تمكين صورة نمّطية للعرب
مؤلم ما وصلنا إليه من قمّة المهانة/ الهوان، وقد أصبحنا نستحي من السؤال عن أسباب الانحياز الغربي ضد قضايانا. ولكن عندما نرى ما حدث ويحدث في العالم العربي، نصل إلى قناعةٍ بأنّنا نحن من يمدّهم بالحجج القاطعة الداعية إلى ذلك الانحياز، بل الحجج للاستمرار في إيلامنا اشد الألم، وما لجرح بميّت إيلام.
قد تكون قضية جمال خاشقجي أكبر وأعمق، من حيث المعاني والرّمزية، من نظرية "نهاية التّاريخ" التي تعني، حقا، بالنسبة لنا، قمة الهوان وانطلاق شرارة إنهاء التعامل مع قضايانا في سبيل إنشاء نظام عالمي جديد، نشكّل فيه الاستثناء في كل شيء: لا معرفة، لا حقوق، لا ديمقراطية، لا فرصة للتغيير والتحوّل.. وإن حدث التحوّل، فسريعا ما يتم احتواؤه لينقلب ثوراتٍ مضادّة، انقلاباتٍ ومشاريع لتهديم الإنسان العربي، الدولة العربية، بل سبيلا لإدامة التعثّر.
قد تكون قضية جمال خاشقجي، أيضا، أشمل من نظرية "صدام الحضارات" التي تعني، في الحقيقة، فتح الباب على مصراعيه، لتزويد العرب بالسلاح للإجهاز، بصفة نهائية، على قضايانا، بأيدينا وليس بأيدي غيرنا، ممن كان يوصف بعضهم، إلى زمن قريب، بالأعداء ليُصبحوا، فجأة، من الأصدقاء، وتلتقي مصالحنا مع مصالحهم. إنه الانتحار، بعد قمة الهوان التي وصلنا إليها.
ولكن، في النهاية، ما سيولد من قضية خاشقجي هو فتح الباب للانتباه إلى حيوية تلك القضايا، وتكون سببا لإيقاظ الوعي بشأنها وشأن المتسبب الحقيقي في رزاياها... احترق محمد البوعزيزي في تونس، فانطلقت شرارة انتفاضة عربية واسعة، وبمجرد انطلاقتها حقّقت عودة الوعي، وذلك ما أخاف الجميع، وأعدّوا له العدّة، وليس ذلك إلاّ لخوفهم من مآل ذلك الوعي، وشدة أثره على توجّهات قضايا بحجم فلسطين، حقوق الإنسان، تحوّل العالم العربي وتغييره. ساهم جمال خاشقجي في ذلك، ولعلّه يكون سببا لتغيير مسار التعثر الذي أعقب أحداث ما بعد 2011، وإن غدا لناظره لقريب.