في العاشر من أغسطس/آب عام 1920 اجتمع عدد من دبلوماسي أوروبا في مصنع للبورسلان في ضاحية باريسية تدعى "سيفر" وقرروا أن يشطروا "كعكة" السلطنة العثمانية في ما بينهم. كانت أمامهم خرائط مفرودة على طاولة. هناك أقلام تتحرك، بسلاسة على الخرائط وتحدد مناطق النهب والقسمة. أرض وأنهر وبشر ولغات وتواريخ تثوي صامتة تحت صرير تلك الأقلام والمساطر التي تعطي من لا يملك لمن لا علاقة له بالمنطقة من قريب أو من بعيد.
لم تدم اتفاقية "سيفر" سوى عام واحد، إذ رفضتها الحركة الوطنية التركية بقيادة كمال باشا أتاتورك. واضطرت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى إلى إعادة النظر فيها بعد ثلاث سنين في مدينة لوزان السويسرية التي سُطِّرت فيها الاتفاقية الشهرية التي تحمل اسمها. ومن دون الدخول في تفاصيل كثيرة نذكر أن اتفاقية لوزان "أعادت" أراضي واسعة كانت من أملال السلطنة إلى جمهورية تركيا الجديدة التي أعلنها أتاتورك على أنقاض "الباب العالي".
ستصبح السلطنة مجرد ذكرى تستعيدها تركيا في مسلسلاتها، وربما في بعض قدرتها على التأثير في مصائر المنطقة المحيطة بها التي كانت تحت سيطرة سلاطينها قبل نحو مئة عام. لم تعد الدول الأوروبية التي تناهبت "تركة" السلطنة النظر في اتفاقية "سيفر" إلا بعدما هزمهم الباشا التركي الجديد، كمال أتاتورك، ببقايا جيشه العثماني الذي رصَّ صفوفه، وباستنفاره شعورين متعارضين: القومي عند الأتراك والديني عند الأكراد.
اقرأ أيضاً: خارطة الطريق المصرية تمرّ بحديقة الحيوان
أعادت اتفاقية لوزان النظر في الوعود التي أعطيت للأكراد بوطن قومي مستقل، وأرجعت الاقتطاعات التي منحت إلى: اليونان، الأرمن، الإيطاليين، الفرنسيين، البريطانيين إلى وريث "الباب العالي". وهكذا رسمت اتفاقية لوزان حدود الجمهورية التركية الحالية.. التي ستكتمل مع إخلاء فرنسا للواء الإسكندرونة وتركه، نكاية بالوطنيين السوريين، للأتراك، رغم أن ممثلي السلطنة العثمانية اعترفوا بعروبته في اتفاقية "سيفر".
محرمة حريرية
من "أدبيات" التفكير في، والعمل على، تقاسم تركة "الرجل المريض"، كما كانت توصف السلطنة العثمانية، أن حكومة لندن قامت بطبع محرمة حريرية مرسوم عليها خريطة جديدة تمثل تصور الدول الأوروبية للمنطقة بعد هزيمة السلطنة التي لم تسجل واقعة حربية يعتدّ بها في مواجهة الغزاة الأوروبيين سوى في معركة "غاليبولي".
لم تكن لندن تضرب في الرمل عندما طبعت تلك المحرمة. كانت تعرف أن السلطنة غير قادرة، عسكرياً، على مواجهة الجيشين الأقوى في العالم، آنذاك، البريطاني والفرنسي، وأنها تبسط سيادة شكلية على كثير من "ممتلكاتها" خارج النطاق الجغرفي التركي (بالمعنى الذي نعرفه اليوم)، وأنها، فوق ذلك، تحالفت مع القوى القومية العربية الطالعة من رحم ليل السلطنة الطويل لكي تكون لهم دولة على كامل المشرق العربي بعد طي الصفحة العثمانية، ودعتهم إلى الانخراط في المعركة ضد الأتراك.
اقرأ أيضاً: كنيسة فلسطينية على خارطة السياحة العالمية
كانت هناك حركتان قوميتان تتنازعان تركيا ومنطقتها العربية. الاثنتان تعملان، في ظل عمامة السلطان الرمزية، والاثنتان تقتبسان النموذج الأوروبي للدولة – الأمة. نجحت الحركة الأولى، كما نعرف، في إنهاء دولة الخلافة والانتقال إلى دولة قومية حديثة (رغم عشرات الألغام القومية والمذهبية التي تفخخها من الداخل)، فيما فشلت الحركة القومية العربية، الممثلة بثورة الشريف حسين، شريف مكة، وأبنائه في صنع كيان عربي واحد، وبدلاً من وعود البريطانيين لهم بذلك، انتهت منطقة المشرق العربي تحت الاحتلال البريطاني والفرنسي المباشر، وتم تمهيد الطريق للوفاء بوعد آخر قطعه البريطانيون على أنفسهم ولم يتراجعوا فيه قيد أنملة: قيام وطن قومي لليهود في فلسطين.
خارطة ملتهبة
هذا تاريخ ليس بعيداً، عاشه أجدادنا وآباؤنا المباشرون، ولا نزال نحصد ثماره المرّة حتى اليوم، بل نحن مهدّدون بمزيد من التفتيت، بعد التفتيت الأول في سايكس – بيكو، قد يكون نتاجاً "طبيعياً" للنار التي تأتي على الأخضر واليابس في المشرق العربي. كثير من المعلقين والسياسيين الغربيين تحدثوا، بعد الحرب التي تدور من بغداد إلى سهل الغاب، وانخراط قوى إقليمية ودولية عديدة فيها، عن سايكس – بيكو جديدة.
فالحرب هذه تدور، فعلا، في تلك الخارطة المنحوسة التي رسمها الدبلوماسيان سير سايكس البريطاني وجورج بيكو الفرنسي، في عام 1916، وحملت اسميهما إلى الأبد. إنها حرب قد تطول أكثر من خارطة واتفاقية من ضمنها "سيفر"، وربما "لوزان".
فالحرب لا تجري على الأرض السورية والعراقية الرسمية الطالعة من اتفاقية سايكس – بيكو، بل وعلى أرض اتفاقية "سيفر" التي لحظت دولة قومية للأكراد. هناك اليوم مطامح كردية كبرى للاستقلال عن بلدان لها أسماء قومية قاطعة: الجمهورية العربية السورية، الجمهورية التركية. العراق تدارك ذلك من قبل ولم يُدْخل لفظة عربي إلى اسمه رغم أن العرب يشكلون أكثر من سبعين في المئة من سكانه، ومع ذلك فأكراده ثاروا على هويته العربية عقوداً طويلة حتى مكّنهم الأميركيون من كينونة سياسية صغيرة في الشمال العراقي.
اقرأ أيضاً: المهرجانات الفنية في لبنان... جوائز ترضية لزوجات السياسيين
لا هي دولة مستقلة عن العراق تحظى باعتراف، ولا هي جزء فعلي من العراق السياسي والإداري، بل والثقافي. فلا عربية اليوم في كردستان العراق. لم يعد يتكلم العربية ويشعر بارتباط نسسبي بالعراق إلا الأجيال القديمة. وقد تكون تلك الكينونة نواة لكيان أكبر يمتد إلى داخل تركيا وشريط سوري ملاصق لهاتين الدولتين، فيما همدت قضية كردستان إيران التي أشعل فتيلها حزب القائد السياسي الكردي عبد الرحمن قاسملو الذي اغتاله في فيينا فريق استخباري إيراني بقيادة محمود أحمدي نجاد، الرئيس الإيراني لاحقاً. هذا يعني أن قضية الأكراد لن تعود الى أدراج الانتظار، إلى ما لا نهاية، مرة أخرى.
تلميحات أميركية
الأميركيون يلومون الأوروبيين على "ورطة" الشرق الأوسط. فهم يعتبرون أن أساس المشكلة يكمن في اتفاقيات تقاسم النفوذ بين بريطانيا وفرنسا في الشرق الأوسط، والمشرق العربي خصوصا. هذا ما يتضح مما قالته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية اليمينية التي أسسها المفكر الأميركي الراحل صمويل هنتنغتون "ما غيره"، في عددها الأخير. ففي تناولها لهذه "الورطة" التي نتجت من اتفاقات بين دول لم تأخذ تاريخ المنطقة وثقافتها وواقعها في الحسبان، عندما قامت مشارطها بشطر جغرافيتها، خلقت أساس المشاكل الحالية المستعصية.
لم تكن لتنوجد القضية الكردية، وصراعات الحدود، وعابرة الحدود، الأقليات والأكثريات، والأهم، وهذا كلامي، القضية الفلسطينية، لولا التدخلات الأوروبية الجراحية العنيفة في جسم المنطقة. والمجلة تدعو، صراحة، إلى الأخذ في الاعتبار اتفاقية "سيفر" عند التفكير في مستقبل المنطقة أكثر من "سايكس – بيكو". بل تقول بالحرف: انسو سايكس – بيكو، فاتفاقية "سيفر" هي التي توضح الشرق الأوسط الحديث!
إقرأ أيضا: تاريخ فلسطين برسومات ولوحات فنية
لم تدم اتفاقية "سيفر" سوى عام واحد، إذ رفضتها الحركة الوطنية التركية بقيادة كمال باشا أتاتورك. واضطرت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى إلى إعادة النظر فيها بعد ثلاث سنين في مدينة لوزان السويسرية التي سُطِّرت فيها الاتفاقية الشهرية التي تحمل اسمها. ومن دون الدخول في تفاصيل كثيرة نذكر أن اتفاقية لوزان "أعادت" أراضي واسعة كانت من أملال السلطنة إلى جمهورية تركيا الجديدة التي أعلنها أتاتورك على أنقاض "الباب العالي".
ستصبح السلطنة مجرد ذكرى تستعيدها تركيا في مسلسلاتها، وربما في بعض قدرتها على التأثير في مصائر المنطقة المحيطة بها التي كانت تحت سيطرة سلاطينها قبل نحو مئة عام. لم تعد الدول الأوروبية التي تناهبت "تركة" السلطنة النظر في اتفاقية "سيفر" إلا بعدما هزمهم الباشا التركي الجديد، كمال أتاتورك، ببقايا جيشه العثماني الذي رصَّ صفوفه، وباستنفاره شعورين متعارضين: القومي عند الأتراك والديني عند الأكراد.
اقرأ أيضاً: خارطة الطريق المصرية تمرّ بحديقة الحيوان
أعادت اتفاقية لوزان النظر في الوعود التي أعطيت للأكراد بوطن قومي مستقل، وأرجعت الاقتطاعات التي منحت إلى: اليونان، الأرمن، الإيطاليين، الفرنسيين، البريطانيين إلى وريث "الباب العالي". وهكذا رسمت اتفاقية لوزان حدود الجمهورية التركية الحالية.. التي ستكتمل مع إخلاء فرنسا للواء الإسكندرونة وتركه، نكاية بالوطنيين السوريين، للأتراك، رغم أن ممثلي السلطنة العثمانية اعترفوا بعروبته في اتفاقية "سيفر".
محرمة حريرية
من "أدبيات" التفكير في، والعمل على، تقاسم تركة "الرجل المريض"، كما كانت توصف السلطنة العثمانية، أن حكومة لندن قامت بطبع محرمة حريرية مرسوم عليها خريطة جديدة تمثل تصور الدول الأوروبية للمنطقة بعد هزيمة السلطنة التي لم تسجل واقعة حربية يعتدّ بها في مواجهة الغزاة الأوروبيين سوى في معركة "غاليبولي".
لم تكن لندن تضرب في الرمل عندما طبعت تلك المحرمة. كانت تعرف أن السلطنة غير قادرة، عسكرياً، على مواجهة الجيشين الأقوى في العالم، آنذاك، البريطاني والفرنسي، وأنها تبسط سيادة شكلية على كثير من "ممتلكاتها" خارج النطاق الجغرفي التركي (بالمعنى الذي نعرفه اليوم)، وأنها، فوق ذلك، تحالفت مع القوى القومية العربية الطالعة من رحم ليل السلطنة الطويل لكي تكون لهم دولة على كامل المشرق العربي بعد طي الصفحة العثمانية، ودعتهم إلى الانخراط في المعركة ضد الأتراك.
اقرأ أيضاً: كنيسة فلسطينية على خارطة السياحة العالمية
كانت هناك حركتان قوميتان تتنازعان تركيا ومنطقتها العربية. الاثنتان تعملان، في ظل عمامة السلطان الرمزية، والاثنتان تقتبسان النموذج الأوروبي للدولة – الأمة. نجحت الحركة الأولى، كما نعرف، في إنهاء دولة الخلافة والانتقال إلى دولة قومية حديثة (رغم عشرات الألغام القومية والمذهبية التي تفخخها من الداخل)، فيما فشلت الحركة القومية العربية، الممثلة بثورة الشريف حسين، شريف مكة، وأبنائه في صنع كيان عربي واحد، وبدلاً من وعود البريطانيين لهم بذلك، انتهت منطقة المشرق العربي تحت الاحتلال البريطاني والفرنسي المباشر، وتم تمهيد الطريق للوفاء بوعد آخر قطعه البريطانيون على أنفسهم ولم يتراجعوا فيه قيد أنملة: قيام وطن قومي لليهود في فلسطين.
خارطة ملتهبة
هذا تاريخ ليس بعيداً، عاشه أجدادنا وآباؤنا المباشرون، ولا نزال نحصد ثماره المرّة حتى اليوم، بل نحن مهدّدون بمزيد من التفتيت، بعد التفتيت الأول في سايكس – بيكو، قد يكون نتاجاً "طبيعياً" للنار التي تأتي على الأخضر واليابس في المشرق العربي. كثير من المعلقين والسياسيين الغربيين تحدثوا، بعد الحرب التي تدور من بغداد إلى سهل الغاب، وانخراط قوى إقليمية ودولية عديدة فيها، عن سايكس – بيكو جديدة.
فالحرب هذه تدور، فعلا، في تلك الخارطة المنحوسة التي رسمها الدبلوماسيان سير سايكس البريطاني وجورج بيكو الفرنسي، في عام 1916، وحملت اسميهما إلى الأبد. إنها حرب قد تطول أكثر من خارطة واتفاقية من ضمنها "سيفر"، وربما "لوزان".
فالحرب لا تجري على الأرض السورية والعراقية الرسمية الطالعة من اتفاقية سايكس – بيكو، بل وعلى أرض اتفاقية "سيفر" التي لحظت دولة قومية للأكراد. هناك اليوم مطامح كردية كبرى للاستقلال عن بلدان لها أسماء قومية قاطعة: الجمهورية العربية السورية، الجمهورية التركية. العراق تدارك ذلك من قبل ولم يُدْخل لفظة عربي إلى اسمه رغم أن العرب يشكلون أكثر من سبعين في المئة من سكانه، ومع ذلك فأكراده ثاروا على هويته العربية عقوداً طويلة حتى مكّنهم الأميركيون من كينونة سياسية صغيرة في الشمال العراقي.
اقرأ أيضاً: المهرجانات الفنية في لبنان... جوائز ترضية لزوجات السياسيين
لا هي دولة مستقلة عن العراق تحظى باعتراف، ولا هي جزء فعلي من العراق السياسي والإداري، بل والثقافي. فلا عربية اليوم في كردستان العراق. لم يعد يتكلم العربية ويشعر بارتباط نسسبي بالعراق إلا الأجيال القديمة. وقد تكون تلك الكينونة نواة لكيان أكبر يمتد إلى داخل تركيا وشريط سوري ملاصق لهاتين الدولتين، فيما همدت قضية كردستان إيران التي أشعل فتيلها حزب القائد السياسي الكردي عبد الرحمن قاسملو الذي اغتاله في فيينا فريق استخباري إيراني بقيادة محمود أحمدي نجاد، الرئيس الإيراني لاحقاً. هذا يعني أن قضية الأكراد لن تعود الى أدراج الانتظار، إلى ما لا نهاية، مرة أخرى.
تلميحات أميركية
الأميركيون يلومون الأوروبيين على "ورطة" الشرق الأوسط. فهم يعتبرون أن أساس المشكلة يكمن في اتفاقيات تقاسم النفوذ بين بريطانيا وفرنسا في الشرق الأوسط، والمشرق العربي خصوصا. هذا ما يتضح مما قالته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية اليمينية التي أسسها المفكر الأميركي الراحل صمويل هنتنغتون "ما غيره"، في عددها الأخير. ففي تناولها لهذه "الورطة" التي نتجت من اتفاقات بين دول لم تأخذ تاريخ المنطقة وثقافتها وواقعها في الحسبان، عندما قامت مشارطها بشطر جغرافيتها، خلقت أساس المشاكل الحالية المستعصية.
لم تكن لتنوجد القضية الكردية، وصراعات الحدود، وعابرة الحدود، الأقليات والأكثريات، والأهم، وهذا كلامي، القضية الفلسطينية، لولا التدخلات الأوروبية الجراحية العنيفة في جسم المنطقة. والمجلة تدعو، صراحة، إلى الأخذ في الاعتبار اتفاقية "سيفر" عند التفكير في مستقبل المنطقة أكثر من "سايكس – بيكو". بل تقول بالحرف: انسو سايكس – بيكو، فاتفاقية "سيفر" هي التي توضح الشرق الأوسط الحديث!
إقرأ أيضا: تاريخ فلسطين برسومات ولوحات فنية