انفجار مرفأ بيروت (حسين بيضون)
12 سبتمبر 2020
+ الخط -

فتح انفجار مرفأ بيروت، في 4 أغسطس/آب الماضي، نوافذ بيروت كلّها على مآسٍ لا تُحصى، وقصص لا تنتهي. وبالتوازي، فتح الإعلام اللبناني شاشاته وصفحاته للتغطية، لكنّه وقع مرةً جديدة في فخّ الفوضى والتبعيّة السياسيّة والمنافسة على حساب المهنيّة.

فرضت تأثيرات الانفجار الهائل نفسها على القنوات، لكنّ التغطية الإنسانيّة انتهت قبل انتهاء إزالة الركام من شوارع بيروت، أو العثور على جميع المفقودين. هكذا، باتت الشاشات والمواقع بؤرة للأخبار مغلوطة والاصطفافات سياسية وطائفيّة والتسريبات والتحريض، بل كذلك تبرير الجريمة والتعمية عن الحقائق.

بعد الانفجار، تُرك المواطنون لمصائرهم، ولملموا ركام منازلهم على ضوء الشموع. هنا كانت التغطية الإعلاميّة مكثّفة. ورغم أنّ الإعلام المستقلّ غير موجود في لبنان، لكن تضمّ أغلب القنوات عدداً من الصحافيين المهنيّين. هؤلاء حاولوا نقل الصورة وكشف الفساد الذي أدى لهذه الجريمة المروعة. خرجت تظاهرات غاضبة قُمعت بالغاز والرصاص الحي والمطاطي والخردق. استعجلت السلطة السياسية قلب الروايات، واعتبرت الانفجار "فرصتها للنجاة من حصار دولي". استقالت حكومة حسان دياب. وافتُعلت أحداث أمنية طائفيّة في مناطق متعدّدة، لتشتيت الانتباه. وحصل حراك دولي دعماً للمتضررين من الانفجار، وحراك سياسي دولي بقيادة فرنسا منح السلطة سترة نجاة، وأدى إلى تكليف رئيس حكومة جديد. هذا، بعيداً عن ملفات الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يعاني منه لبنان أصلاً.

بعد أكثر من شهر على الانفجار، لم يحاسب أي مسؤول، فيما ابتعد الحديث الإعلامي عن مآسي الضحايا والمطالبة بالعدالة لهم. لكنّ التغطية الإعلامية اللبنانية لانفجار مرفأ بيروت والأحداث التي تلته لم تكُن دائماً منصفة أو مهنية. فيما عانى صحافيون على الأرض للتوفيق بين اضطراب ما بعد الصدمة، ومشاعرهم، والاستمرار في التغطية، بينما كان هناك آخرون، يعاملون الضحايا كسبقٍ صحافي، فينشرون التحريض أو الشائعات، ويمرّرون تبريراتٍ للمتهمين بارتكاب الجريمة، ويسمحون للسياسيين اللبنانيين بتحويل الكارثة إلى ملفّ تراشق وكسب، وفرص. تقول الباحثة في "المفكرة القانونية"، جويل بطرس: "بدأت قلّة المسؤولية في التغطية منذ اللحظة الأولى لوقوع الانفجار، بدءاً من إرسال وسائل الإعلام إشعارات عبر تطبيقاتها الإلكترونية بأنّ الانفجار وقع قرب بيت الوسط (مقرّ سعد الحريري)، وأنّه ناجم عن مفرقعات نارية، وغيرها من الفرضيات والأخبار المغلوطة؛ وهو خطأ يقع فيه الإعلام اللبناني عند كلّ حدثٍ من هذا النوع".

إعلام وحريات
التحديثات الحية

 لكنّ هذا "الحدث" كان جريمة تفجير اللبنانيين في بيوتهم، ولم يكن يحتمل كلّ تلك الفوضى أو عدم الدقّة، أو حتى إعطاء مساحة لمسؤولين متهمين بالجريمة، لتبرير أنفسهم. تقول بطرس: "أعطت قناة LBCI الهواء لمدير الجمارك بدري الضاهر فور ورود الأخبار عن انفجار المرفأ. كان الضاهر مسؤولاً مباشراً عن المرفأ، ولم يكن قد خضع للتحقيق بعد. لم يكن يفترض بأيّ قناةٍ إعلامية أن تعطيه مساحةً ليبرر". وترى أنّ المخيف هو مسارعة الإعلام إلى إبراز جميع السياسيين وآرائهم، إذ ترى أنّ ذلك جزء من محاولة تسييس الموضوع وتضييع المسؤوليات. وتشير بطرس التي تعمل في رصد الإعلام إلى أنّ بعض القنوات استدركت ذلك وأعلنت مقاطعة السياسيين، لكنّها توضح أنّ الخطوة اقتصرت على مقاطعة الخطابات، مع الاستمرار في مقابلتهم في نشرات الأخبار والبرامج.

عرضت قناة "الجديد" اللبنانية حلقاتٍ وتقارير ومقابلات قام خلال صحافيوها بكشف فساد لمسؤولين في ملفّ انفجار المرفأ، لكنّها في الوقت نفسه كانت تبرز مساحاتٍ واسعة لتسريبات من التحقيق، من دون أي قدرة على التحقّق من صحّتها. تقول بطرس: "أن تُسرّب الأجهزة الأمنية أو القضاء تحقيقات لا يعني صحّتها. كما لدينا تجارب بينها قضية زياد عيتاني (فبركة تهمة العمالة) لتعلّمنا ألا نصدّق. من يُسرّب تحقيقاً يعني أنّ له أجندات، وأنّ من ينشرها بات ذراعاً لها، ويساهم في التضليل".

وفيما كان بعض موالي "حزب الله" يسخرون من الانفجار على مواقع التواصل الاجتماعي، كانت قناة "إم تي في" تحمّل الحزب المسؤوليّة عن الجريمة. تشير بطرس إلى أنّ القناة دخلت فوراً في خطاب تحريضي: "ظهرت كل البروباغندا التي تدين الحزب على القناة، ثم دخلت في خطاب فئوي ضدّ مؤيديه، وهو أمر غير مبرر بالرغم من كلّ المشاكل التي يشكّلها حزب الله". وتشير إلى استغلال سياسي واضح بدا في بعض برامج القناة، كحلقات "صار الوقت" مع مارسيل غانم التي استضاف فيها بعض أهالي الضحايا، إذ بدا أنّ الأسئلة تهدف إلى استغلال التصريحات في مصلحة فريقٍ ضدّ آخر.

في وقتٍ يحتاج فيه الناس لمَن ينقل صوتهم فقط، ويطالب بحقّهم، وصولاً للعدالة، لم يكن الإعلام اللبناني (المقبوض على أغلبه من قبل رأس المال والأحزاب والأجهزة) على قدر المسؤوليّة. تقول الصحافية في صحيفة "نداء الوطن"، مريم سيف الدين: "أثبت الإعلام اللبناني أنّه حتى في حال وقوع جريمة بهذا الحجم بحق الوطن وناسه، هو غير مستعدّ لأن يخرج عن ولائه السياسي، ويصرّ على القيام بدور الحامي للسياسيين والفاسدين، حتى بعد ثبوت جريمتهم". لذا، ترى أنّ الإعلام لعب دوراً في تعمية الناس عن حقائق لا تريد الطبقة السياسية أن تُعرف. وتشير سيف الدين إلى تنسيق واضح بين بعض المؤسسات الإعلامية اللبنانية والسلطة السياسية، تظهر بوضوح عبر فتح المجال بكثافة لخطاب السلطة والتضييق على خطاب الناس. إذ يُسمح لمسؤولين أن يبرروا الإهمال والفساد والمحسوبيات، كما حصل عبر قناة LBCI التي أعطت الهواء لبدري الضاهر بعد الانفجار؛ في ظلّ عدم قيام إعلاميين بمهمّتهم في تصويب النقاش والسؤال عن التحقيقات، لكننا نرى المسؤولين يتحدثون عن "فرص" جلبها الانفجار للبنان بل واستغلال الضحايا، وتخصيص مساحات واسعة لتغطية زيارات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحتى التحريض الذي حصل إما مباشرةً أو عبر الحديث عن تمييز بين الضحايا كما حصل على قناة "المنار".

ترى سيف الدين أنّ كثافة الأحداث فرضت نفسها أيضاً على الأجندة الإعلامية، إذ لا يمكن لصحافي أن يمتنع عن تغطية اشتباكات في منطقةٍ ما، لكنّها تُدرج ذلك في خانة خطط السلطة للتعمية عن الانفجار ودفع اللبنانيين لـ"تغيير الحديث"، عبر افتعال أحداث متعددة، بينها إشكالات أمنية. وتقول: "هناك إشغالٌ للإعلام في أحداث أخرى، بعضها مفتعل. لم تعد القصص تأخذ حجمها الطبيعي في التغطية. بتنا في حالة من أخبار متعددة سريعة".

في الوقت نفسه، ترى سيف الدين أنّ الحصول على تصريحات من مسؤولين، "بعيداً عن جوّ المصادر ونقل روايات الأجهزة"، هو نوعٌ من المساءلة الإعلامية، "فعندما نرى شباباً متطوّعين متروكين في أماكن خطرة من دون أن تكون القوى الأمنية تقدّم خبراتها التي يدفع لها اللبنانيون أجرها، وعندما يكون هناك أهالٍ يناشدون التفتيش عن أبنائهم، أو أن لا يقدّم الجيش معلومات عن المفقودين في ظلّ استلامهم حكم بيروت بحال الطوارئ، هنا يجب كصحافيين أن نسألهم ماذا فعلوا". لكنّها تشير إلى أنّ المشكلة أن لا معلومة وأنّ أغلب الإجابات تأتي على شكل ذرائع، فهنا يعود الصحافي إلى مشاهداته فقط. وتضيف: "لكنّ غياب المعلومات يعني أن لا عمل أصلاً. هذا يرينا مدى إجرام السلطة. هناك جريمة ارتكبت بتفجير بيروت، وبعده ارتكبت جرائم أخرى تثبت حجم إجرام هذا النظام، إذ إنّه ليس قادراً فقط على قتل الأشخاص في بيوتهم، بل إنّه غير مستعدّ لإنقاذهم أو انتشالهم ويتركهم لمصيرهم".

في ظلّ غياب المعلومات، تفرّغ صحافيون لعمل مهني حقيقي يحاول كشف الحقيقة حول المسؤولين عن جريمة المرفأ، والتي راح ضحيّتها أكثر من 190 شخصاً، وأكثر من 6 آلاف جريح، فضلاً عن تشريد 300 ألف شخص، واستمرار وجود مفقودين.

تشير جويل بطرس إلى جودة العمل الاستقصائي للصحافيين رياض قبيسي وليال بو موسى، بالإضافة إلى تقارير لإدمون ساسين، كان هدفها مدّ الرأي العام بمعلومات ووثائق حول المرفأ والجريمة وكيف حصلت، والاهمال والفساد المستشري في المرفأ وفي الجمارك وغيرها التي كانت واضحةً في كونها عملاً صحافياً وليست معلومات مُرسلة من قبل أجهزة لبثّها".

وتعتبر إلى أنّ الإضاءة على ملف المستشفيات المتضررة، بالإضافة إلى حلقات استضافت بعض أهالي الضحايا وناجين رووا ما حصل معهم، كانت مهمّة للغاية. لكنّ المشكلة أنّ كل تلك التغطية لم تستمر سوى عشرة أيام فقط. تشير بطرس إلى اختفاء العامل الإنساني واحتلال السياسة الشاشات: "ارتفعت وتيرة الحديث السياسي في الإعلام بعد استقالة الحكومة وزيارات ماكرون وخطابات سياسيين بينهم أمين عام حزب الله حسن نصر الله والوزير السابق جبران باسيل. غاب الحديث عن الضحايا على حساب فتح الهواء للسياسيين، وكأنّ كلّ ما يهمنا عرفناه أول أسبوعين، أي الفترة التي دُفن فيها الضحايا".

 وكانت هذه الفترة خطرة للغاية، إذ تفرّغت كل قناة للتجييش وتمرير أجندتها الخاصة. توضح بطرس: "هناك من تبنّى إعادة الوصاية على البلد ومَن شجّع التدخلات الخارجية. كلّ تمركز في معسكره، فالبعض كان يريد التدخل الفرنسي والآخرين كانوا يشجعون التدخل الإيراني، فيما لم يكن هناك مَن يشجبه أو يرفضه، أو حتى من يعيد تصويب الخطاب في الأصل".

وتشدد بطرس على أنّ الإعلام اللبناني هو جزء من المنظومة ويعتاش منها، أي له مصالحه واعتباراته، لذا فإنّ التغيير لا يمكن أن يكون عبر مقدّمة نشرة إخباريّة أو مقطع دعائي يتوعّد السلطة بالرحيل، أو حتى برنامج تلفزيوني واحد. وتسأل "ماذا يفعل الإعلام اللبناني لرحيل من توعّدهم بعد الانفجار بالسقوط؟ فعلياً لا شيء". وتقول إنّ التغيير يجب أن يكون في كلّ النهج المتّبع إعلامياً مع هذه المنظومة كي تسقط، وهو أمر ترى أنّه لا يمكن أن يحدث، "إذ إنّ الإعلام الذي تأسس في الحرب ويعتاش ويتموّل من المنظومة السياسية المستمرة منذ الحرب، يستحيل أن يستطيع المساهمة في إسقاطها إن لم يكن لديه بديل يضمن استمراريته.

المساهمون