خارج التعريفات الذكوريّة

26 ابريل 2016
لوحة للفنان الأميركي بيتر سيكلس (Getty)
+ الخط -
لم يكن "الواقعي" منطقة العمل الوحيدة للنقد النسويّ. لقد امتدّ نشاط النسويّة إلى "الافتراضي" و"المتخيَّل" ليشمل الآداب والفنون عمومًا بوصفها مناطق تترعرع فيها المجازات الذكورية التي تؤسّس للوعي الذكوريّ وتشكّل رافعةً لواقع الهيمنة الذكوريّة. والحقيقة أنّ "الواقعي" كان دائمًا أقلّ من "الافتراضي" رضوخًا للسلطة الذكورية، إذ طوّرت المرأة أشكالاً مدهشةً للمقاومة، وشكّلت لنفسها "مملكة ظل" لم يستطع الذكر أن يفكّكها أو يُخضعها لسلطته، ولا أن يَدخلها إلاّ ضيفًا أو عابرًا ما يلبث أن يغادر.

كانت الأسرة تبدو، في الظاهر، معمارًا ذكوريًا خالصًا. لكن ذلك لم يكن واقعيًا تمامًا، لأن المرأة استطاعت أن تحرر مساحات كبيرة من معمار الأسرة، وأن تقيم مملكتها هناك بالتحديد، في القبو الذي تتربّع فوقه مملكة الذكر. هكذا حققت المرأة اختراقات مهمة في جدار الواقع الذكوري. لكنّها، في المستوى الافتراضي الموازي، لم تنجز شيئًا يُذكر، بل ظلّت الثقافة الذكوريّة مهيمنة حتّى على وعي المرأة ذاتها، وظلت تشكل العائق الأكثر صلابة أمام تحقيق المساواة القيمية بين المرأة والرجل.


ومع أن المرأة العربية قدمت، في الجاهلية والإسلام، مساهماتٍ ممتازة في الشعر والسرد والنقد ورواية الأحاديث والأخبار والسجوع الكهانية، إلّا أن حضورها ظل هامشيًا في موازاة حضور الرجل. لكن بداية الإسلام شهدت نقلة نوعية في الوعي، فعندما يقول الرسول: "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء" - يقصد عائشة - فإن ذلك يعني أن دور المرأة في صناعة الوعي ينبغي أن يوازي دور الرجل تمامًا من دون أي انتقاص. ولقد لفت انتباهي ردّ عائشة على ما ورد في صحيح البخاري والترمذي نقلاً عن أبي ذر الغفاري، الذي يقول: (قال رسول الله: إذا صلّى الرجل، وليس بين يديه كآخرة الرحل أو كواسطة الرحل، قطع صلاتَه الكلب الأسود والمرأة والحمار). لقد أنكرت عائشة ذلك الحديث، وقالت: شبّهتمونا بالحمُر والكلاب؟!! إنّ ردّ عائشة الموجزَ هذا يفضح السياق الذكوريّ الفجّ الذي يتحكم بعمليّة إنتاج النصّ وتوظيفه، فهي لا تسلّم بصحّة الحديث ولا بما ورد فيه رغم تأكيد الرواة على صحّته، وتفضح ذلك الوعي الذي يشتغل، باسم المقدّس وبالنيابة عنه، في إنتاج النصوص وتحصينها وتوظيفها لصالح سلطة ذكوريّة تضرب عرضَ الحائط بالمقدّس ومقولته؛ وهي، باستخدامها ضمير المتكلّم الجمعيّ في قولها (شبّهتمونا)، إنّما ترحّل الكلام من الشخصيّ إلى العامّ، وتتحدّث لا كامرأةٍ بل كواحدة من (النساء) بمنطق يمكن اعتباره منطقًا (نسويًّا) مضادًّا للمنطق الذكوريّ المتّهم هنا بالتزوير والانحياز ضدّ المرأة.


كان من الواضح أنّ المسلمين لن يأخذوا شيئًا عن تلك الحميراء التي ترفض الرواية الذكوريّة وتناضل ضدّها، وأنّ المرأة ستتعرّض للإقصاء عن منطقة إنتاج الوعي في الفضاء العربيّ الإسلاميّ، وسيظلّ حضورها محدودًا وقليل الأثر في حقول الفنّ والأدب، لا لأنّها ناقصة عقلٍ ودينٍ كما شاع في الثقافة الذكوريّة، بل لأنّ الثقافة الذكوريّة ذاتها ناقصة عقلٍ ودين.

في العام 1929، كتبت فرجينيا وولف، في رسالة لها: "لم أستطع منع نفسي، وأنا أشاهد أعمال شكسبير على الرف، من التفكير بأنه من المستحيل تمامًا لأيّ امرأةٍ أن تكتب مسرحياتٍ مثله وهي في مثل عمره وفي مثل ظروفه، فلو كان لشكسبير أخت تتمتع بموهبة رائعة ـ ولنسمّها جوديث ـ فسنجد أن شكسبير قد التحق بالمدرسة الثانويّة فتعلّم وقرأ للعديد من الكتّاب، ثم سافر وتزوج من امرأة في الجوار سرعان ما أنجبت له ابنًا، وبعدها ذهب إلى لندن وبدأ العمل في العناية بالخيول، إلّا أنّه سرعان ما حصل على عملٍ داخل المسرح، حيث أصبح ممثّلاً ناجحًا وعاش في مركز العالم والتقى الجميع حتّى استطاع دخول القصر الملكي، بينما ظلت أخته، التي افترضنا أنّها عظيمة الموهبة، حبيسة المنزل، مع أنها توّاقة للتعلّم والمغامرة. لكنّها لم ترسل إلى المدرسة، ولم تعش حياة شكسبير الغنيّة، فكيف نتوقّع أن تصبح كاتبةً عظيمة مثله؟".


إنّ جوديث ليست أقلّ موهبة من شكسبير في الحقيقة. لكنّ المساحة التي يتيحها المجتمع الذكوريّ لنمو جوديث أضيق بكثير من تلك التي يتيحها لنمو شكسبير. المجتمع الذكوري، إذن، يئد المرأة ولا يسمح لها أن تنمو إلا تحت الأرض، وإلا لكان يمكن أن يكون شكسبير امرأة، وأن يكون الدور، الذي لعبه المسرح الشكسبيري في تشكيل الوجدان الإنجليزي، مختلفًا تمامًا عمّا هو عليه الآن.

لقد التفتت المرأة الكاتبة، في الغرب، إلى ضرورة تحرير الكلام من هيمنة الصوت الذكوري، ففي كتابها "الجنس الآخر"، نبّهت سيمون دي بوفوار إلى ضرورة وجود نظريّة نقدية نسوية جديدة غير منحازة لنقد ثقافة تشخيص المرأة كموضوع سلبيّ؛ ودعت إيلين شولتر إلى وجود نقد جنساني (Gyno Criticism) يُعنى بالتعامل مع التجارب الأنثوية البحتة، كالحمل والولادة والإرضاع والعلاقة بين امرأة وأخرى.. إلخ.

هكذا كان من الضروري البقاء خارج التعريفات الذكورية للأنثى، كما ترى جوليا كريستيفا في كتابها "الذات المتكلّمة"، تلك التعريفات التي تكرّس بطولة الذكر، وتعاين الأنثى لا بوصفها ذاتًا موازيةً لذات الذكر، بل بوصفها موضوعًا، وبالتحديد موضوعًا جنسيًّا لنزواته في كثير من الأحيان.
المساهمون