حين يهزم الدم السيف

30 يوليو 2015

في مسرح شكسبير، هزم الدمُ السيف، فلحقت بماكبث الهزيمة

+ الخط -
"يا لبؤس بلدنا المسكين، إنه ليكاد يخشى من مواجهة نفسه، ليس بوسعنا أن ندعوه أمّنا، بل هو قبرنا، وما من إنسان فيه بمقدوره أن يبتسم، إلا إن كان جاهلا بمجريات الأمور، تسمع فيه تنهّدات وزفرات الألم، وصرخات تدوّي في الفضاء، وما من أحد يلتفت إليها لكثرتها. بات الحزن الشديد أمراً مألوفا وعاديا، فإن قَرَع الناقوس ليعلن عن موت إنسان، لم يسأل الناس عن اسمه، وأما حياة الصالحين منا، ففي طول عمر الزهور التي نقطفها، يموتون من قبل أن يهرموا ويمرضوا". 
هكذا يصف الكاتب العظيم ويليم شكسبير، في (ماكبث) آخر مسرحياته، حال ذلك البلد المسكين الذي حكمه قائد عسكري، استبدّت به أحلام الحكم التي زينتها له قوى الغيب، وباركتها زوجته المهووسة بالسلطة، فقرر خيانة الملك الذي وثق به، زاعما أنه أحق بالملك منه، وبعد أن قتله غدرا، اتهم ابني الملك الهاربَين بقتل أبيهما، لتدين له مقاليد الحكم، ويحسب أن لن يقدر عليه أحد.
لكنه، بعد قليل، يكتشف أن عطشه للدماء لن يرتوي، بعد أن سكنه خوف متعاظم، من أن يكون هدفا لغدر أقرب الناس إليه، وحين ظن أنه سينال راحته، لو تخلص من بانكو، أقرب رجاله إليه، يدرك أنه بدأ رحلة مريرة جديدة، طاردته فيها أشباح قتلاه، فأقضّت مضجعه، وحرمته راحة النوم، "بلسم الأذهان في أذاها، والمغذي الأكبر في وليمة الحياة"، ليدفعه قلقه الدائم نحو جنون مؤكد.
لكن طغاة أيامنا ليسوا كماكبث، لا يخاصم النوم أجفانهم، ولا يعترفون برؤيتهم أشباح قتلاهم، وهي تحاصرهم غدوة وعشيّا، ولا تلطخ دماء الضحايا أيادي زوجاتهم، فتحرمهن بهجة السلطة، ولا يرى منهم عامة الشعب سوى التطاوس والانتفاخ والمزيد من البطش، لكنهم مهما كابروا وعاندوا، يشتركون مع ماكبث في إدراكهم الداخلي، أنهم لم يكونوا، في واقع الحال، أهلا لطموحهم الجامح، وأن كرسي العرش الذي انتزعوه بقوة السلاح، "أشبه بثوب عملاق يلبسه لص قزم".
لذلك ترى طغاة زماننا حريصين بمناسبة، ومن دون مناسبة، على تبرير شرورهم "اللازمة للمجد والرفعة"، وهي مبررات قد تؤثر على الملايين أحيانا، بالكذب والتعتيم والزنّ على الآذان، لكن ذلك لا يجعلهم متصالحين في داخلهم أبدا، مع ما ارتكبوه من جرائم، لأن "الحياة لا تصبح كما كانت من قبل للذين يحطمون الحياة". ولذلك، لا يحتاج الأمر إلى كثير من التسريبات وزلات اللسان والقرارات الخاطئة، لتكتشف مدى هشاشة الطاغية وذعره، برغم حرصه على أن يبدو للناظرين مسيطرا باطشا، لأن سعيه الدائم لإسكات وقمع الكلمة المعارضة والمعلومة الكاشفة والرأي الناقد، يكشف أنها ليست مجرد كلمات عابرة، بل هي بالنسبة له أشباح مزعجة تطارده في يقظته ومنامه، كما كانت أشباح العصور القديمة تطارد ماكبث. ولذلك، يواصل الإتيان بأفعال منفلتة، يدهش بعضهم من لجوئه إليها، وهو في عز سطوته، متناسين أن "كل ما بالشر يبدأ، إنما بالشر يقوى".
على مر التاريخ، لم يكن الدم قادرا دائما على هزيمة السيف، فلطالما ثبّت السيف طغاة على عروشهم طويلا، وساعد آخرين على الإفلات من عواقب جرائمهم، لكن دماء الضحايا ظلت تخيف حاملي السيوف. ولذلك تجدهم يمعنون في معاداة كل من يعمل على إبقاء رواية الضحايا حية، فالحقيقة وحدها هي الشبح الذي يطارد القاتل، لأنها تبطل سعي الجريمة الدائم نحو حلم الاكتمال، الذي يمحو آثارها للأبد.
على خشبة مسرح شكسبير، هزم الدمُ السيف، فلحقت بماكبث الهزيمة، بعد أن "خطا في الدم بعيدا، وأصبح النكوص عن الدم مرهقا، مثل المضي فيه". كان ماكبث يعلم، في قرارة نفسه، أن "الدمَ يطلبُ الدم"، وأنه قُتِل حين قتل، ولعله حين رفض عرض الاستسلام الذي منحه له من داهموه، لم يكن يخشى هوان الهزيمة، بقدر ما كان يرغب في أن يرتاح من مطاردة أشباح ضحاياه له، مختارا أن ينفذ السيف إلى صدره، لتنتهي حياته التي "ملأها الصخب والعنف"، وينتهي معها كل شيء: الأحلام التي راودته سابقا في بقاء طويل على العرش، وأوهام الخلود التي زينتها له قوى الغيب، ومدائح منافقيه الذين سرعان ما أخذت ألسنتهم تلهج بالتسبيح لملك منتصر جديد.
قد لا تكون تلك هي النهاية بالضرورة، على خشبة مسرح الحياة الذي لا تتحقق فيه النهايات السعيدة، إلا حين يأتي على الناس حينٌ من الدهر، يغادرون فيه مقاعد المتفرجين، ليكتبوا بأيديهم نصا أكثر عدالة، لا يصنع طغاة جددا، ولا يتيح للطغاة القدامى نهاية سهلة، يفلتون بها من حساب عدالة عمياء، بها وحدها، يهزم الدمُ السيف.
(ما بين علامات التنصيص مقتطفات من مسرحية ماكبث)

اقرأ أيضا: إنهم يكتبونني
دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.