حين يعترف مسؤول جزائري بتزوير الانتخابات
لأول مرة في تاريخ الجزائر، يخرج مسؤول كبير، برتبة والي (محافظ) سابق، عن المألوف، في هذا السلك الإداري الرفيع، المحفوف بكثير من الغموض والتستر، يخرج من دائرة الصمت إلى البوح بصوت مرتفع بأسرارٍ، تنشر لأول مرة، علناً، فقد عمد والي وهران السابق، وهي ثاني أكبر المدن بعد ولاية الجزائر العاصمة، واسمه بشير فريك، إلى إصدار كتابين بعنوانين يستفزان أسئلة مكنونة في نفس كل متتبع للشأن الداخلي الجزائري. الأول "الولاة في خدمة من؟"، والثاني "منتخبو البلديات مفسدون، أم ضحايا"، وصدرا عن منشورات الشروق، بمناسبة معرض الجزائر الدولي للكتاب. وكشف فريك، أن (الفساد متفش في الولايات والبلديات الجزائرية، وأنّ الوالي، أو رئيس البلدية، مجرد آلة في يد السلطة، يطبقان تعليماتٍ لا أخلاقية وغير حضارية تحت غطاء "خدمة المصلحة العليا للبلاد").
لم يخف الرجل عمليات التزوير التي ساهم فيه الولاة في كل الانتخابات التي شهدتها الجزائر بعد "توقيف المسار الانتخابي"، كما أسمته السلطة الحاكمة آنذاك في بداية التسعينيات. قال، في ندوة نظمتها دار النشر بمناسبة إصدار الكتابين: "الولاة، ومنذ بداية التعددية الحزبية في بداية التسعينيات، أصبحوا آلة أو أداة انتخابية بيد السلطة، توجههم كما تشاء". قدم هذا المسؤول الكبير في الإدارة المحلية الجزائرية شهادة حية بأنّ الانتخابات الوحيدة التي لم تزور هي الانتخابات المحلية في 12 من يونيو/ حزيران 1991، والانتخابات التشريعية في 26 من ديسمبر/ كانون أول من العام نفسه، وفازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
السيد الوالي، وفي استضافته في برنامج تلفزيوني، كان قد بث في الحملة الانتخابية للرئاسيات التي جرت في إبريل/ نيسان الماضي، قدم تشريحاً وافياً لمؤامرةٍ استهدفت البلاد والعباد، من خلال أعمال فاسدة أقدمت عليها الإدارة بالتزوير واستعمال المزور في كل الانتخابات التي عرفتها الجزائر، بعد التعددية الحزبية. وكيف كانت تصل إلى الولاة تعليمات مباشرة وواضحة للتدخل في نتائج الانتخابات، وفي تحويرها وتغييرها لصالح مرشحي السلطة، وتغليب من ترضى عنه، وفي المقابل، إسقاط كل الأصوات المعارضة، وترك مقاعد لها، لتزيين المشهد الانتخابي، والادعاء بديموقراطية مزعومة. تحدث الرجل بأمثلة من الواقع عن تعليماتٍ، تلقاها هو وزملاؤه في الولايات الأخرى، (48 ولاية أو محافظة) في كل القطر الجزائري. تعليمات جاءتهم من وزراء الداخلية المتعاقبين، أو من رؤساء الحكومات المتتالية، وأعطى أمثلة عن تعليمات بالتزوير تلقاها من وزير الداخلية في بداية التسعينيات، العربي بلخير، أو من رئيس الحكومة فيما بعد، أحمد أويحيى. وأفاد بأنّ العشرية الأخيرة عرفت ظهور من يسمون "ولاة الجنرالات وولاة رجال المصالح والأعمال"، وهو بذلك يقصد أن ولاء الولاة لم يعد للدولة كسلطة مركزية،
وإنما توزعت الولاءات بين الجنرالات المتنفذين في السلطة، ورجال الأعمال الذين أصبح لهم باع طويل في تسيير دواليب الدولة، والتأثير على قراراتها، بما يخدم مصالحهم الخاصة.
وقد أثار كتابا الصحافي الذي أصبح والياً، بشير فريك، زوبعة تعليقات وردود أفعال متباينة. فمن الناس من يرى أن هذا الرجل مجرد مدع لنقاوة لا يمتلكها، فلقد مارس السلطة بكل بهرجها ومزاياها، ولم تتنزل عليه صحوة الضمير المزعومة، إلا بعد أن تخلى عنه أهل السرايا، وعزلوه بعد سنوات من العز والتمتع بخيرات الوطن. ويُرجع داعمون هذا الحكم، على أقوال الوالي السابق لوهران، إلى أن المسألة لا تعد كونها مجرد انتقام من نظام لفظه، هو الآخر، كما تلفظ الآلة قطعة الغيار المستهلكة، والتي يحين موعد تغييرها بعد ردح من الزمن.
في الجهة المقابلة، يقف المساندون للرجل، يلتمسون له الأعذار، ويصرون على أن في أقواله وتصريحاته وكتاباته شجاعة قل نظيرها، وهو إذ باح بالحقيقة المرة، ولو بعد حين، واعترف بمشاركته في الفساد الاداري والانتخابي، فهو بذلك يريح ضميره، ومن شأن هذا الأمر أن يشفع له لدى الرأي العام، فالعبرة بحسبهم، بالمآلات والنهايات التي تصب بتراكم التجارب، الصالح منها والطالح، في المصلحة العليا للوطن.
ومهما تعددت الآراء، واختلفت في المغزى الذي يهدف إليه الرجل، من إصداره كتابيه (القنبلتين)، كما وصفهما أحد المتابعين، فإن ما احتويا عليه من معلومات واعترافات وشهادات وأمثلة، يُعد سابقة في الجزائر، لم يذهب إليها بالجرأة والصراحة نفسيهما، أي ممن تعاقبوا على مقاليد الحكم في الجزائر المستقلة، على المستوى المحلي وعلى مستوى الوزارات أو الحكومات. فلقد تم، في الأعوام الأخيرة، إصدار كتب ومذكرات عديدة لشخصيات تاريخية، تناولت بعض خبايا ثورة التحرير (1954ـ 1962) وأمجادها وبطولاتها، وحتى بعض إخفاقات زعمائها وخصوماتهم، إلا أن فترة الاستقلال لم تشهد إلا مساهمات قليلة في هذا المجال، لعل من أبرزها كتب محيي الدين عميمور، مدير الإعلام في الرئاسة في عهدي الرئيسين هواري بومدين والشاذلي بن جديد والوزير السابق للإعلام، ومذكرات أحمد طالب الإبراهيمي، وزير التربية والخارجية الجزائري الأسبق. وهي كتب، وإن أثرت المكتبة الجزائرية والعربية بشهادات أصحابها عن الفترة من الستينيات الى الثمانينيات، إلا أنها وحدها لم تستطع إشباع رغبة القارئ في مزيد من المعلومات والأسرار عن تلك الفترة المهمة من تاريخ الجزائر والأمة العربية، الحافل بالأحداث والتوترات.
أماط كتابا "الولاة في خدمة من؟" و"منتخبو البلديات مفسدون، أم ضحايا" اللثام عن محظورات لم يجرؤ أي ممن زاول السلطة في الجزائر على قولها جهاراً نهاراً للجمهور الذي كان يعرفها ويتحسسها من الممارسات الشائنة التي صبغت الطبعات المختلفة للانتخابات الجزائرية، منذ التعددية الحزبية. كان الجزائريون يعرفون طرق التزوير التي تمارسها الإدارة، ولكن التأكيدات، هذه المرة، وردت ممن مارسها بالفعل، وفي مواعيد انتخابية مفصلية، كالانتخابات الرئاسية التي جرت في العام 1995، أو الانتخابات التشريعية التي تلتها، أو ما تبعهما من انتخابات متعاقبة، وبأمثلة دامغة وحجج وبراهين لا لبس فيها، ما يضفي على هذه الشهادات صفة التأريخ لمرحلة مهمة من تاريخ الجزائر، وفي فترة حرجة، راح ضحيتها أكثر من مئتي ألف جزائري في صراع داخلي وحرب أهلية، كان من أهم أسبابها الممارسات الشنيعة للإدارة، والتي لم تتورع في إدارة دفة السفينة نحو مصالحها ومصالح ربابنتها، وبعيداً من مصلحة الوطن والمواطن.
ممارسات صنعت برلماناً يسمى، في الجزائر، المجلس الشعبي الوطني، لا يعترف به أحد، لا المواطن المغلوب على أمره، والذي لم يشارك في انتخابه أصلاً، ولا السلطة التي تعرف جيداً تركيبته، وكيفية وصول نوابه و"نائباته" إلى الجلوس في المقاعد تحت قبته. مجلس أضحى محل سخرية في الشارع، فأعضاؤه يتهافتون على أخذ صور تذكارية مع الوزراء، لتركيبها في ألبوم ذكرياتهم، بدل مساءلة هؤلاء عن قطاعاتهم المتردية أوضاعها، وعن الأموال التي أنفقوها، أو أهدروها في ما لا ينفع البلاد والعباد. برلمان يصرخ فيه، أخيراً، أحد المتمردين من داخله، النائب حبيب زقاد، في مداخلة استثنائية بثها التلفزيون الحكومي: لا أعترف إطلاقا ببرلمان أُفرغ من محتواه، برلمان يرفض مشروع مساءلةٍ يتقدم بها أحد النواب عن ظاهرة الفساد المستشري في كل القطاعات والوزارات. تعود أعضاؤه على رفع الأيادي تأييداً لكل ما تسجله الوزارات من مشاريع قوانين، من دون مناقشة أو مجادلة، إلا ما جادت به القرائح، وما أكثرها، من كلمات الشكر والمديح لحكومة "مصونة معصومة".