حين يطلب مدنيون في الجزائر انقلاباً عسكرياً

09 سبتمبر 2017

(فرانس برس)

+ الخط -
منذ مرض الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، وقبله بمدة، بدأت أوساط محسوبة على الساحة السياسية الجزائرية تنادي سرا وجهارا بدور تغييري للجيش. وكأنّ شبح الانقلابات العسكرية الذي عرفته الجزائر عاد ليحوم فوق الصراع السياسي حول السلطة لحسمه، أو للدفع بالديمقراطية، كما يتخيل المنادون بدور سياسي مُحكّم للقوات المسلحة. ومعلوم أن الجمهورية الجزائرية شهدت انقلابين عسكريين مكتملي المعالم، الأول في السنين الأولى للثورة، وسميّ تصحيحا ثوريا جعل من هواري بومدين رئيسا على الطراز الكاريزمي. والثاني في أوائل التسعينيات، وبرّره مهندسوه بإنقاذ الجمهورية من خطر الإسلاميين. والحقيقة أن ذلك الانقلاب كان إنقاذا للنخبة العسكرية النافذة، ومن يتعاقد معها من مدنيين. ومعلوم أن قوى مدنية "ليبرالية" دعمته، لخوفٍ من الإسلاميين الذين لم يُحسنوا آنذاك إدارة العملية التواصلية، ولم يكبحوا جماح خطبهم العاطفية التَي تُصورهم بديلا "مقدّسا" للآخر.
لم يَعُد الرئيس بوتفليقة، من الخارج، بدعوة جماهيرية عامّة، كما يُحاول كثيرون اليوم تصوير ذلك، وانمّا عبر صفقة مع الجيش النافذ آنذاك. وقد قبل العودة والترشح لمنصب رئاسة البلاد بشروط تتيح له أن يكون رئيسا كاملا، لا مدنيا يقوده عسكريون. وعلى مرّ سنوات حُكمه، عمل على تحييد الوجود العسكري الطاغي والملحوظ في دوائر صنع القرار، ليُصبح رئيسا كليّ القدرة يتحكّم في أمور الدفاع، السياسة الخارجية، وحتى توزيع الريوع النفطية وصرفها. لكنّ صفقة العسكر مع المدني الأقرب إلى العسكري الأهم في تاريخ الجزائر (هواري بومدين) لم تُخرجهم خاسرين، وإنّما ضمنت لعديدين منهم امتيازات اقتصادية، سياسية، وحتى قضائية، استمدت روحها من القوانين التي سنّها بوتفليقة للخروج بالجزائر من الحرب الدامية التي تعرف في الذاكرة الوطنية بالعشرية السوداء.
تعيش العلاقات المدنية - العسكرية في الجمهورية الجزائرية اليوم حالة شبيهة بالتي عاشتها 
القوات المسلّحة في مصر في عهد الرئيس حسني مبارك، إذْ إنه، وعلى الرغم من أن الرئيس بوتفليقة هو القائد العام للقوات المسلّحة ووزير الدفاع الوطني، إلّا أنّ شؤون المؤسسة الداخلية من ميزانية وأمور تقنية بقيّت، في أحيان كثيرة، بيد قائد هيئة الأركان. كما أن القضايا الداخلية للقوات المسلحة الجزائرية بقيت خارج النقاش المدني، بما في ذلك البرلمان، وهذا عرفٌ سائدٌ في تاريخ الجمهورية الجزائرية. يُمكن القول اليوم إن المؤسسة العسكرية تتجه نحو التخصص والتعمق، في مقابل خضوعها للمؤسسة المدنية الحاكمة، ممثلة في الرئيس بوتفليقة ومن معهُ. وبغضّ النظر عن ديمقراطية الرئيس بوتفليقة من عدمها يبقى وضع العسكريين الطبيعي هو الخضوع للرئيس المنتخب.
المثير للاهتمام أنّ إشكالية تدخل الجيش لإنعاش ديمقراطية الجزائر لمْ تعد أحاديث سريّة، أو صفقات تُدار داخل الغرف المغلقة، وإنما أصبح مدنيون كثيرون يعبّرون صراحةً عن هذا المطلب، الأمر الذي جعل المؤسسة العسكرية ترد على هذه الرغبة، في عدد شهر سبتمبر/ أيلول الجاري من مجلتها، "مجلة الجيش"، بإيضاحٍ لمن يطالبون بانقلاب عسكري "أنّ الجيش سيظل جمهوريا ملتزما بالقيام بمهامه الدُستورية". وليس من عادة الجيش الجزائري، في فترة الرئيس بوتفليقة، الحديث بصوت مرتفع في القضايا السيَاسية، لذا يبدو أنّ نشر هذا الإيضاح في افتتاحية مجلته الرسمية مُؤشر على كثافة الاتصالات التي يقوم بها مدَنيون معَ قِيادة الجيش، بهدف دفعه إلى التدخل بانقلاب عسكري، أو الضغط نحو تفعيل المادة الدستورية المتعلقة بشغور منصب الرئاسة.
من وجهة نظر ديمقراطية مدنيَة، لا يحتمل هذا الأمر الانقسام بين "مع" و"ضدّ "، وإنمّا يحتاج موقفا مبدئيا حازما. من غير الديمقراطي أن يستنجد المدنيون بالجيش بغرض هزيمة خصومهم، وهذا ينطبق على النظام والمعارضة. يعتقد المدنيون المُطالبون بتدخل الجيش لحسم الصراع لصالحهم (بسذاجة) أنّ الجيش سيشغلّ دباباته، ويتحمل عناء المخاطرة بالانقسام
الداخلي، متوجها نحو قصر الرئاسة لعزل الرئيس، لإعلان الديمقراطية بعد ذلك بساعات. فالجيوش لا تنقلب لكي يحكم غيرها، وحتّى إن دفعوا بالديمقراطية، فذلك قد يستغرق فترة انتقالية قد تتجاوز العُشرية أو يعيّنوا مدنيين على مقاس مصالحهم. على المطالبين بالانقلاب العسكري أن يفهموا أنّه أسهل شيء يمكن أن يفعله قَادة الجيوش هو انتزاع بدلاتهم العسكرية، وارتداء بدلات مدنية، والاستيلاء على أعلى المناصب المدنية. ومن السهل على الجيوش انتزاع اعتراف القوى العظمى بشرعيتهم، خصوصا في زمن مكافحة الإرهاب الذي تتخذه هذه الدوَل شعارا.
مَن البديهي القول إنّ على من يريد ديمقراطية حقيقية التفاوض مع الشعب، وليس مع العسكر. ومن غير الأخلاقي تحميل الأجيال القادمة عبء فشل المعارضين المدنيين السيّاسي، فالأحرى بمن يتصلون بالجيش من أجل التغلب على النظام أن يتواصلوا مع الشعب، أو أقلّ من ذلك أن يتواصلوا في ما بينهم، ويتكتلوا لهزيمة النظام وتغييره بصناديق الانتخابات، فالديمقراطية تُبنى بالحوار وبالنضال المستمر، فكريا وسيَاسيا، وليس على ظهور الدبابات. ما يُمكن استخلاصه من هذا كله، هو ضعف الالتزام بالديمقراطية، والملل من النضال في سبيلها جزائريا وعربيا. إذْ إنَه، وعند أدنى فشل، يتصلَ المدنيون بالعسكر للعزوة والاستقواء على خصومهم. ليس هناك مهرب من الاعتراف بتعثر الديمقراطية في الجزائر، وتصلب موقف النظام، ووضعه كلي القُدرة في الساحة السيَاسية. لكن في مقابل ذلك يجب التنويه بأنّ تدخل الجيش سيزيد الأمور تعقيدا وحساسية، إذ إنَه في الحالَة الجزائرية لن يفعَل الجيش ما عجز غيره عن فعله.
4B2FBF0A-B9D0-45E8-BB60-FC5241F9CD45
4B2FBF0A-B9D0-45E8-BB60-FC5241F9CD45
بلقاسم القطعة

طالب جزائري في معهد الدوحة للدراسات العليا

بلقاسم القطعة