حين رجع أمبار

22 أكتوبر 2014
فاتح المدرس / سوريا (جزء من لوحة)
+ الخط -

لم يكن هذا هو اليوم الأول الذي يشاهد فيه الفتى زابلو أمبار تدريبات الجيش العسكرية. فالمستوطنة التي يسكنها حدودية، يكسوها شجر البلوط والسرو، ويسندها كتف جبل مجوّف كأن فيه عيباً، أو كأن ثقلَ من مرّوا ومن مكثوا طحنَ عظامه.

لكن ما كان مختلفاً اليوم هو ذلك الوافد العجيب، حركته المتقطّعة المستقيمة، استدارته نصف استدارة بطيئة من ثم انطلاقه السريع، الضوء الأحمر في عينيه، والأسلاك الخارجة من أعلى أذنيه، صوت أنينه ذي الإيقاع الشديد، كم كان يشبه اللعبة!

أدخل الفتى رأسه من النافذة وانطلق مهرولاً نحو باب الـ"كيبوتس" الذي كان مفتوحاً، تخطى الدرجات الثلاث قفزاً، واستدار يميناً راكضاً حتى صار مقابل فناء التدريب.

كان الجنود حينها يلقون عتادهم أرضاً وقد خفتت قواهم، أما المخلوق العجيب فقد اختفى، كأن ما رآه قبل قليل من خلال النافذة كان طيفاً. تقدّم الفتى من الجنود الذين اعتادوا المكان وأطفاله وأبدوا ودّاً تجاههم خلال فترة التدريب الدائم في المستوطنة. ثم سأل الملازمَ بوريس يازينوف عن الكائن الغريب الذي يبدو كلعبة في الفناء قبل قليل. "تقصد الريبوت"، قال وهو يضحك بصوت عال. ربّت على رأس الفتى دون أن يجيبه ومضى مسرعاً كرسالة عبر فيسبوك. ريبوت؟ سأل الولد نفسه بعد أن استدار ووجد الفناء خالياً وقد خيم السكون عليه كغرفة معيشة  أُطفئ التلفاز فيها لتوه.

قبل أقل من عام، وفي شهر أيلول تحديداً، جرت معركة "عنيفة"، بهذا وصفها أبوه يومها، هو أيضاً لا ينسى الملجأ وما كان يثيره من ضجر هدوء الترقب وقتذاك. ولا ينسى ما سمع من قصص وروايات حول الفئران، تلك الضخمة منها، التي تهاجمهم باستمرار، "لكن لماذا؟" سأل أمبار. "كي تأكل ما لدينا من جبن"، ردّ أبوه.

من يومها لم يعد الفتى يتناول الجبن حتى لو كلفه ذلك العقاب من والديه، ومع مرور الوقت اعتاد قاطنو الـ"كيبوتس" رفض الفتى الدائم للجبن.

أمبار لا يتذكر الكثير عن إثيوبيا، فقد غادرها ولم يتجاوز سنته الثانية، لكن حديث أمه الدائم عن "بحر دار"، تلك المدينة التي تزين مرتفعات الشمال الغربي من البلاد، والتي تحدّها من الجنوب بحيرة "تانا" العظيمة حيث ينبع النيل الأزرق، وحنينها لرائحة طين البحيرة حيث كانت تغمض عينيها عندما تذكر البحيرة وتقرّب راحتيّ يديها من أنفها وتتنشق الهواء المختنق بينهما بعنف، كان من شأنه أن يطلق صوراً في مخيلة الفتى ويرسم أشكالاً وأناساً لم يرهم من قبل، حتى خيل له أنه يعرفهم شكلاً شكلاً وفرداً فرداً، وهو أيضاً كأنه قد تنشّق ذلك الطين ربما في وقت مضى.

الجلبة في الخارج التي أحدثها قدوم الجنود نزعت رائحة الطين من أنف الأم، واسترعت حواس أمبار المتشوقة للوافد الجديد. ألقى الفتى نظرة متفحصة من النافذة وقد بدا له الريبوت ساكناً متروكاً بين العتاد كشجرة سرو في مقبرة، استغل اختلاط الذكريات بالحاضر على أمه التي كانت تلملم نظراتها وتحاول تركيزها، ومضى متسللاً هادئاً خارج الـ"كيبوتس" كلص محترف.

في الخارج كان يقف رتل من الجنود في صف أفقي وقد بدأوا بتفقد بندقياتهم وحشوها، وكان يقف جانباً الملازم بوريس يازينوف ممسكاً بيده جهازاً أسود يخرج من رأسه قضيب مطاطي طويل. اقترب الفتى زابلو من الملازم الذي لحظه واستقبله بابتسامة سريعة، "جئت لتشاهد الريبوت" قال الملازم، ثم تابع: "حسناً يا فتى قف جانباً وراقب ما سأفعله".

ضغط يازينوف على الجهاز الأسود ثم حرّك ذراعاً بلاستيكية صغيرة ظهرت على جانب الأيمن للجهاز، فتقدم الريبوت ببطء نحوهما، من ثم ضغط يازينوف زراً صغيراً بالكاد يظهر على هذا الجهاز، فاستدار الريبوت نصف استدارة وانطلق مسرعاً، تلفت الملازم إلى أمبار الذي كان مأخوذاً يتابع الريبوت المسرع وقد ملأ المكان غباراً وقال له: "هيه يا فتى أتود تجربة ذلك؟"، توسعت شفتا أمبار بابتسامة كانت تعني الإيجاب. تناول الجهاز من يد الملازم وتتبع إرشاداته، ضغط الفتى على الذراع البلاستيكية فتقدم الريبوت نحوه، ضغط مرة أخرى فتقدّم منه في سرعة أكبر، تلفت زابلو للملازم وسأل: "ما اسم هذا الريبوت؟" ضحك الملازم ضحكة متعالية كان من شأنها تشتيت انتباه الجنود المتأهبين للتصويب، من ثم قال: "لا اسم له، ولكن إن أردت تسميته فلك ذلك". تلفت الفتى من حوله كمن ينتظر إجابة تأتيه من هنا أو هناك ثم قال: "بوجال، نسميه بوجال"، "كما تريد" قال الملازم وهو يلتقط الجهاز من يد الفتى ويراقب بدء الجنود بإطلاق النار صوب فزاعات خشبية تملأ الفناء.

اعتاد الفتى أمبار على الصديق الجديد بوجال، وكان يفرط في الاهتمام به كلما سنحت الفرصة لذلك، حتى ظن بعض الجنود أن الفتى مخبول، فقد سمعوا الفتى أكثر من مرة وهو يدعو الريبوت بوجال، ولحظوا أمارات الشغف التي تظهر على وجهه كلما هم بلقاء الريبوت. وبينما كان أمبار يتحسس ذراعي بوجال المصنوعتين من الحديد تقدم أحدهم ووضع كفه على كتف الفتى، التفت أمبار فوجد الملازم يازينوف أمامه، ابتسم الملازم كعادته فبادره أمبار في السؤال: "لكن ما حاجتكم بهذا الريبوت؟" انحنى الملازم واضعاً كفيه على كتفي الولد من ثم نظر في عينيه نظرة ثابتة كأنه يتلقى ما يريد أن يقول منهما وقال:
"من أجل القضاء على الفئران الضخمة".

تعذّر على الفتى فهم العلاقة بين الريبوت بوجال والفئران الضخمة، فقال: "ولم لا تقضون على الفئران عن طريق الطائرات والبنادق؟"، ضحك الملازم بوريس مرة أخرى، "نحن..." صمت برهة، ثم أردف متابعاً وقد تدفقت الكلمات من فمه رصينة هذه المرة: "نحن قد نصاب أو نقتل خلال مجابهة الفئران الضخمة، وأنت بالتأكيد لا تريد أن يلحق بنا مكروه، ولا تريد البكاء لأمهاتنا. أما الريبوت فلا أم ولا أهل له، وإن أصابه مكروه يمكننا إصلاحه دون الحاجة لذرف الدموع". هز الفتى رأسه وعاد لتحسّس الريبوت مجدداً.

بعد مرور شهرين على قدوم بوجال، وبينما كان أمبار يقضم تفاحة ويشاهد مسلسلاً كرتونياً على التلفاز، دوت صافرات الإنذار في أرجاء المستوطنة مطلقة صوتاً يشبه عواء ذئاب مجتمعة. سقطت التفاحة من يد الفتى وهو يركض مسرعاً نحو غرفة والديه، وقبل أن يصل الباب ارتطم بأمه التي ظهرت أمامه فزعة كأن مساً قد أصابها. تحاملت الأم على نفسها واحتضنت الفتى، ومضت راكضة خارجة من الـ"كيبوتس" صوب الملجأ.

كان لهذه المعركة وقع آخر، غير تلك التي حدثت العام الفائت، فهذه المرة استمرت الحرب شهراً كاملاً، قضاه أمبار برفقة المستوطنين في الملجأ وقد استباحهم الخوف والضجر معاً. وبدأ يلاحظ حديث من حوله من الكبار عن بلدان ما سمع بها قبل هذه الواقعة، لكن لم يكن من السهل عليه حفظها أو تخيلها، عادت به مخيلته إلى ما كان يسمعه من أمه عن أثيوبيا وبحر الدار، وظن أن كل الذين هنا جاؤوا إلى هنا من بحر الدار.

انتهت المعركة، وخرج الجميع من الملاجئ كأفاعٍ تخرج من جحورها في فصل الصيف، تبعثر المستوطنون كل يسلك اتجاه كيبوتسه. أم أمبار التي شاخت خلال الأشهر الثلاثة وقفت عند باب الملجأ وأغمضت عينيها لا حنيناً هذه المرة، بل من شدة ضوء شمس ظهيرة ذلك اليوم.

أما أمبار فقد ذهب للباحة حيث كان يلتقي ببوجال والملازم يازينوف، لم يكن أحد هناك، كانت الفزاعات محطمة وخشبها متناثراً وقد ضج المكان بالذخائر الفارغة. قفل الفتى زابلو عائداً نحو الـ"كيبوتس" وقد فقد الأمل بأن يهنئ بوجال بسلامته، وقبل أن ينحرف يساراً حيث كان منزله تعثر بكومة حديد ملقاة على الطريق، حركها بقدميه، ثم مد يده مقلّباً إياها، وبينما هو يقلب الحديد تحسّس ملمساً كان يعرفه، رفع قطعة من الحديد أمام وجهه كي يميز ما كانت، فوجد ذراع بوجال الحديدية مقطوعة مهشمة الأطراف. لملم الكومة واحتضنها كجثة.

دخل الـ"كيبوتس" من بابه المفتوح، ولج غرفة المعيشة متجهاً إلى المطبخ، وقف أمام الثلاجة من ثم أمسك بطرفها فاتحاً بابها، نظر مباشرة إلى المكان الذي كان يوضع الجبن فيه، فوجده مكانه وقد كساه العفن.

* كاتب من فلسطين

المساهمون