حين تتعطّل السلطة أو تتبطّل

26 ديسمبر 2019
+ الخط -
تصرّ سلطات سياسية عديدة في بلادنا دائما على المكابرة والعلو والغلو بالاستعلاء والخداع، من دون أن تبدي أدنى مسؤوليةٍ عن السياسات الفاشلة، في ظل حال العطالة، وعدم القدرة على إنجاز مهام وظيفية أساسية، في صلب ما أنيط بها من مسؤوليات ينبغي وفقها، بل يتحتم عليها تنفيذ كامل ما تتطلبه السياسات الاقتصادية والاجتماعية من خطط ومخططات وخطوات، وذلك ضمن نطاق الوظيفة والمهام الأساس على عاتق المكون السلطوي. هذا السلوك يجتاح الدولة ولا يقيم أي وزن لمواطنيها، وحقوقهم وتطلعاتهم المغيّبة، في جداول أعماله وأجنداته، في بلادنا المنكوبة والمنهوبة، والمبتلاة بشرائح ونخب طبقية وطائفية، ليست خليقةً بما هي عليه من تموضع سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، لا قيمة لها في عالم السياسة أو الدولة. فبقدر ما تتعطّل السلطة أو تتبطّل (من البطالة) بقدر ما تفقد قيمتها، لتتماهى مع رثاثةٍ لا أصل لها أو مرجعية في فلسفة بناء الدول، إلا أن ما كشفت وتكشف عنه تجارب وخبرات عديد من سلطات بلادنا تدلل، وقد دللت بما لا يدع مجالا للشك، على أنها لم تكن ولن تكون أمينةً على مهامها، المفترض أنها من صلب وظائفها اللصيقة بها.
لم تنضج السلطة في بلادنا أو تتطور، في إدارات سلطوية عديدة فاشلة مسماة دولا، ولا هي أصبحت خليقةً بإدارة دولةٍ، بقدر ما أبعدت الدولة عن كينونتها المفترضة، وكرّست هيمنتها السلطوية المليشياوية التحاصصية على كامل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وخرّبت بنى تحتية عديدة، وتحكّمت بها واحتكمت إلى موازناتها المنهوبة لتدمير تلك البنى، من دون أن 
تُنجز أيا منها، لا وفق المواصفات المطلوبة، ولا غير المطلوبة حتى، وذلك بفعل زبائنيةٍ مقيتةٍ تفشّت في كامل سياساتها، ولم تقدّم للناس أي إنجاز يعتدّ به، بقدر ما قدّمت لهم "إنجازات" الإفقار والحرمان والموت على أبواب المستشفيات وداخلها، ونهبت أموال الضمان الصحي واعتمادات التقاعد، واستولت على كامل مشاعات الدولة الأرضية والبحرية، وعلى كامل إمكانات العيش الكريم، وضمان شيخوخةٍ مريحةٍ لكل من تجاوزوا سن التقاعد، وباتوا عاجزين عن القيام بأي عمل، ولا مغيث أو معيل لهم في خريف أعمارهم.
باختصار، الدولة عندنا مجرد هياكل سلطوية مفرغة من أيٍّ من سمات الدولة، وكل ما تقوم به أمثال تلك الدولة المفترضة مجرد شكلياتٍ تخضعها لقانون المصالح الخاصة المنحازة لشخصنات السلطة وأنانياتها ونرجسياتها المضافة إلى طبيعتها. تلك الطبيعة التي سبق أن أخضعها أهل السلطة، ومنها تلك العميقة، لا سيما التي من طبيعة استبدادية أو ثيوقراطية ومن يواليهم من عبيدهم غير الأحرار، إلى سلطةٍ موازيةٍ تعمل على أّلّا تسمح بسقوط سلطة نظامها العتيد، نظام سلطةٍ تنحاز إلى متلازمة تقديس ذاتها، انطلاقا من رؤيةٍ تدينيةٍ تبرع في تجارة ما تعتقد أنه مقدّسها الدائم، ومن بينها سلطتها الدنيوية المكرّسة بالقوة الأيديولوجية الثيوقراطية والعسكرية والسياسية القامعة كل أحلام الناس وتطلعاتهم.
في نموذجي مصادرة الدولة والاستيلاء عليها وتجييرها لسلسلة مصالح خاصة، حيث لا دولة 
في كل من لبنان والعراق، رجَحت وترجح كفة سلطة المليشيات الطائفية والمذهببة وأحزابها، وبمعية أوليغارشيات مافياوية مالية وسياسية، من أهل السلطة، في الإمساك بمقاليدها، بعيدا عن هموم إقامة أيٍّ من أشكال الدولة، حيث الأخيرة ليست سوى عامل الضد المخالف لعنصر السلطة وتكوينها السائد، القائم على تدوير شخوصها أو استبدال بعض منهم بأشخاصٍ من العائلات ذاتها التي امتهنت وتمتهن السلطة، بغرض تأمين حياة سلطوية رغيدة ومديدة، على حساب الشعب وحقوقه المغيّبة والدولة المنهوبة.
وفي هذه الحالة، قد لا يختلف وضع السلطوي (الموالي) عن وضع السلطوي (المعارض)، وهما يتداوران ويتناوبان السلطة على الرقعة نفسها التي تضم جغرافيا وديموغرافيا الدولة، فيما هما يغيّبانها عمدا وقصدا، مستقلين ببيئاتٍ خاصةٍ بهما ولهما، كي يحفظا "حقوقهما" السلطوية، مصيّرين الذات السلطوية بديلا للدولة وكينونتها المستقلة، ومسّيرين أمور الناس في ما لا يخدم حقوق هؤلاء، بقدر ما يخاطبان غرائزهم، وبالتالي لا مصالح حقيقية وجدّية للناس، يمكن أن تؤرق سلطات التحاصص للعمل لتحقيقها.
وهنا تحديدا وبالضبط تكمن أسباب الثورات والانتفاضات والهبّات الشعبية، بغض النظر عن تدخلات قوى إقليمية أو دولية، تدعم وتساند أطرافا هنا أو هناك، لكنها، في الوقت نفسه، تسعى إلى الحفاظ على السلطة نفسها وكينونتها وتبعية شخوصها، من دون تخطي ذلك إلى دعم آلية استعادة وجود الدولة، أو تخليصها من براثن أهل السلطة، وإعادة حقوق المواطنة إلى كل المواطنين.
من حق شعوب بلادنا أن تحتكم لدستور واضح، بانحيازه المطلق لشعبٍ توحّده قضاياه وهمومه وتطلعاته الوطنية، وتفصل فيه قوانين من طبيعة دستورية، في إطار دولةٍ مدنيةٍ وإنسانيةٍ حديثة، هي المراد والمبتغى للحكم العادل في مجتمعاتنا المتحرّرة، من قيود وأصفاد وعبودية الأنظمة والأفكار والأيديولوجيات الثيوقراطية، وزعامات التقديس الذاتي، السياسية منها والدينية، العاملة على فرض نوعٍ من عبودية مختارة لدى أنصار هذا الفريق، وعبوديةٍ 
مفروضةٍ بالقسر والإكراه لدى فريق أو فرق أخرى، تستمرئ عبوديتها المعادية لكل حرية أو تحرّر، وبالتالي لا ينظر الأفرقاء تجاه بعضهم إلا نظرة إكراه، يشيطن كل طرفٍ الطرف الآخر، ويسعى كل طرفٍ، بزعاماته وجمهوره، إلى القطيعة السياسية والدينية، لا للاتفاق على مواقف وطنية، فكيف يمكن والحالة هذه أن نشهد انحيازاتٍ واضحة وجدّية وحقيقية لبناء دولة المواطنة الإنسانية والعدل والمساواة؟
هنا تكمن المسألة الجوهرية الأكثر إلحاحا للتركيز عليها، لجهة انحياز الدستور لقانون المواطنة، وما تحتّمه من بلورة حقوق وواجبات الإنسان/ المواطن في دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ حقا لا شكلا، وهذا هو جوهر القانون الدستوري الذي ينبغي الاحتكام إليه، لا تجاوزه وإهماله والقفز عن أحكامه الناظمة؛ على ما هو حال انتهاك الدساتير في عديدٍ من بلادنا، في حين أنه، وبعد ما يقارب العشرين عاما، وفي خطوة غير مسبوقة في باكستان، حكمت محكمة خاصة بإعدام الرئيس الباكستاني الأسبق، برويز مشرف، بتهمة الخيانة العظمى، لتعطيله العمل بالدستور عام 2007، بعد فرض حالة الطوارئ في البلاد.
أما في بلادنا، فحدث ولا حرج، فسلطة العطالة والبطالة لا يمكنها إلا أن تعطّل العمل بالدستور، وهي في الأصل ليست في حاجةٍ إليه، ولا تعود إلى أحكامه الناظمة إلا في حال كانت تريده أن يعمل لصالحها ولمصالحها الذاتية، وهذا هو حال سلطة العسكر والسلطة الدينية العليا وسلطة المليشيات الطائفية وأحزابها وقواعدها الرثّة من الفقراء والمعدمين، ممن لا يمتلكون أي نصيب من ثقافة المواطنة، أو وعيا لتموضع المواطن أو السلطة ذاتها في حياة المجتمعات والدول، الأمر الذي يفسّر أنه في غياب عقلية الحداثة والمعاصرة أو تغييبها، يمكن للسلطة أن تطلق سمومها عبر أفراد مليشياتها لقمع المخالفين، وتأجيل تصدّي قوى القمع الرسمية من جيش وقوى أمنية إلى مرحلةٍ لاحقة، طالما هي لا تثق بهم قدر ثقتها بالمليشيات الشعبوية الأكثر عبودية للزعامات السياسية والدينية.
لهذا تشكل سياسة القتل الممنهج ضد المخالفين والثوار والمتظاهرين وأفراد الشعب الموجودين في الساحات، أو إيجاد أشكال عديدة من الفوضى للتشويش والقمع ضد المتظاهرين، وحتى القوى الأمنية، واحدة من سياسات يقول أصحابُها "نحن أو لا أحد"، وهذا بالتحديد يتناقض بالمطلق مع وجود دستور وقوانين دستورية تتوافق عليها كل القوى السياسية، وتجعل منها الحاكم الناظم لكامل الحياة السياسية، المحكومة بدورها لنظام برلماني ديمقراطي، لا يمكنه إلا أن يتداعى في ظل سيادة منطق السلطة الأحادية أو السلطات العميقة الأبوية، تلك التي بعضها سياسي وبعضها ثيوقراطي، لا يقيم أي نوعٍ من الاحترام للدولة وإنسانها المواطن، نازعا عن سلطته أي انتماءٍ لدولةٍ كهذه منشودة على الدوام، لكنها أيضا منبوذة على الدوام من سلطةٍ عميقةٍ داخلية وخارجية، تضفي على ذاتها هالات كل السلطة وكل الولاية.
دلالات
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.