حيرة الفلسطينيين ومأزقهم

24 يونيو 2015
+ الخط -
يمر الفلسطينيون بلحظات محيّرة أو محبطة، فقد اكتملت عملية اصطياد القوى السياسية والنضالية، وتبدّت مكوناتها مأزومة في داخل أقفاصها، معروضة مصائرها على جداول أعمال الآخرين. في موازاة ذلك، تتواصل قوة دفع القضية الفلسطينية على المسرح الدولي، بفضل عاملين: وضوح مسؤولية العدو عن حال الانسداد السياسي، وتغالظه مع العالم كله، فضلاً عن سلوكه اليومي في الأراضي المحتلة. والثاني، وجود الفلسطينيين كتلة شعبية طامحة إلى الحرية ووضوح امتناعها عن الرضوخ لأي أمر واقع ظالم، يفرضه المحتلون. كل شيء على السطح، دون ذلك، يتضاءل، فكلٌ من المنهجين اللذين اعتمدهما الفلسطينيون (التسوية والمقاومة) يواجه جداراً مُحكم الإغلاق، لكن المواقف الدولية، وإن اعتمد بعضها إجراءات قليلة ضد إسرائيل عموماً، والتوسع الاستيطاني خصوصاً؛ ما زالت محدودة التأثير وأبعد ما تكون عن حسم أمر النزاع بما يلبي الحد الأدنى من الطموحات الوطنية الفلسطينية. في هذا الخضم، يكابد كل من طرفي العمل الفلسطيني، في قفصه، أي أصحاب خط التسوية وأصحاب خط المقاومة، أزمته الداخلية في مساحته الضيقة. وفي هذا المناخ الخانق، تتوالى فصول السجال الفلسطيني المرير، بمحمولاته الكثيرة، من حقائق في السلوك، ومن ضغوط تدفع إلى خيارات ضئيلة، ومن رزايا ونواقص في الحكم، جعلت الطرفين يفقدان التأييد اللازم من الكتلة الشعبية. 
على صعيد منظمة التحرير والسلطة، ينعكس فشل التسوية ترهلاً وضعفاً في الأداء، وفي الحيوية، وفي بنية النظام السياسي، وغياباً للمؤسسات التي ترسم السياسات وتضبط سياقات تنفيذها، وتعزّز قوة هذا النظام، بدل أن ينعكس انهيار العملية السلمية مزيداً من المثابرة على تصليب بنية النظام السياسي، ورفده بروح الصمود العالية، وإعادة بناء المؤسسات، وحُسن اختيار العاملين في إدارة حياة المجتمع، واللاعبين في حلبة السياسة. وعندما يُقال، ارتجالاً، إن الخيار هو المقاومة الشعبية، تتبدّى، سريعاً، الحقيقة المحبطة والسلبية، بحكم أن شرط النهوض بمقاومةٍ شعبيةٍ يتطلب قناعة الشعب بالقائمين على هكذا مشروع، وهذه قناعة لن تنشأ استجابة لنداء من فوق برج أو من وراء ميكروفون، وإنما نتاج عمليةٍ اجتماعية وثقافية وسياسية داخلية، ينال بفضلها المنادون بالمقاومة الشعبية رضى الناس وقناعتها، ويكونون قدوة في المثابرة والزهد ونكران الذات، وفي الروح الثورية.
وعلى صعيد حماس في غزة، انعكس انسداد أفق المقاومة، حسب تعريفها الجهادي؛ غلاظة وارتباكاً في حكم غزة، وتصعيداً في الخصومة الفلسطينية، وتعاطياً مع أطروحات تهدئة طويلة، وكيانية ضئيلة، رَشَحت عنها خطوط عريضة، قوامها بالنسبة لحماس، الظفر من الغنيمة بمجرد الإياب. ذلك كله، بدلاً من أخذ المقتضى الاجتماعي والسياسي، وصولاً إلى استرضاء جماهير غزة، وتضميد جراحها وإعفائها من مشقة التعايش اليومي مع مفردات الخصومة والسجال المرير والأجندات العدمية.
تواجه القضية الفلسطينية خطر التصفية النهائية. وما لم يُنقذ الفلسطينيون اجتماعهم السياسي، ويحققوا وحدة كيانيتهم وأداتهم النضالية وبرنامجهم؛ فإن تضحيات الأجيال ودماء الشهداء ستذهب سُدى، وسيكتشف الواهمون الذين تشبثوا بمواقفهم وبأنماط حكمهم أنهم أوقعوا في أنفسهم وفي شعبهم أفدح الكوارث. ما تتطلبه المرحلة هو البدء، عاجلاً، بنقاش موضوعي على مستوى الطبقة السياسية بكل ألوانها، لصياغة استراتيجية عمل سياسي، وكفاحي بالوسائل المتاحة، لاستعادة حماسة الجماهير، ولنيل ثقتها في نظام حكم واحد، رصين وديمقراطي وذي صدقية، وتهيئتها لأن تقاوم عملية التصفية، والاستفادة من الزخم الدولي المناهض للاحتلال.
يدلنا واقع الحال، اليوم، على استحالة الحصول على التسوية التي يقبلها معظم الفلسطينيين، وعلى استحالة العودة إلى الحرب والمقاومة بالنيران، فلا الحفاوة الدولية تعطينا تسوية عاجلة، ولا الصواريخ تعطينا نصراً وتحريراً. على الرغم من ذلك، هناك ما يمكن اجتراحه، للمضي في طريق النضال الوطني، بحيوية الشعب الفلسطيني، وبفاعلية وجوده على أرضه، وبقوة دفع القضية سياسياً.