ضمن "سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة، الذي استأنف نشاطه عن بُعد من خلال بثّ مباشر عبر وسائط التواصل الاجتماعي المختلفة، قدّم الباحث والكاتب العراقي حيـدر سعيـد، أمس الأربعاء، محاضرةً بعنوان "المسألة الطائفية عند حنّا بطاطو"، تحدّث فيها عن أبرز إسهامات المؤرّخ الفلسطيني (1926 - 2000) في دراسة المسألة الطائفية في العراق.
يَعتبر سعيد، في محاضرته التي قدّمها عبر "برنامج ويبيكس"، أنّ الاهتمام بالمؤرّخ حنّا بطاطو في الدراسات المعاصرة التي تتناول مجتمعات المشرق العربي الحديث يطرح معضلةً، بالنظر إلى أنّه وضع عدداً محدوداً جدّاً من الأعمال، مِن بينها عملٌ مركزي واحد، لكنه حقّق في الوقت نفسه حضوراً كبيراً، مضيفاً أنه، وبخلاف بعض المنظّرين الذين أطلقوا نظريةً عامة من خلال كتاب واحد فقط عُدَّ مُفتَتحاً لحقبة علمية جديدة، فإنَّ أعمال بطاطو ليست أعمالاً نظرية عامّة تُعطي لواضعها مكانةً فريدة.
تكمُن ميزة عمل بطاطو، بحسب المحاضِر، في كونه يُمثّل تأريخاً تطبيقياً لمنطقة محدَّدة، ولا يدّعي (العملُ وصاحبُه) بأنّ تأريخه يحمل في باطنه نظريةً عامة، أو نموذجاً قابلاً للاستعارة والتطبيق وإعادة الإنتاج، مُضيفاً: "هو تأريخٌ فتَح جسوراً مع السوسيولوجيا والاقتصاد السياسي والسوسيولوجيا السياسية، في وقتٍ لم تكن فيه فكرةُ تنافذ المعارف فيما بينها حاضرةً في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية كما هي اليوم".
وبالوصول إلى كتاب بطاطو "الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية الحديثة في العراق" الذي نُشر عام 1978، يقول سعيد إنّ هذا العمل يُعدّ بمثابة "إنجيل الدراسات العراقية"؛ إذ لا يمكن أن يكتب باحثٌ أو باحثة عن العراق الحديث ومجتمعه من دون أن ينطلق من هذا الكتاب، رغم من توافر دراسات كثيرة عن العراق، في صدارتها أعمال السوسيولوجي العراقي علي الوردي.
ويعتبر سعيد أنّ هذا الكتاب شكّل نموذجًا للمتخصّصين في دراسة مجتمعات المشرق العربي ما بعد الدولة الحديثة، ومحاولةً لصياغة نموذج تفسيري محلّي؛ أيّ إنه ليس نظرية كونية، بل إنه يقتبس النظرية لبناء مقولات تفسيرية محلّية الطابع.
وضمن أطروحته عن المسألة الطائفية عند حنّا بطاطو، يُبرز المحاضِر أنّ بطاطو يتعامل مع الهويات الطائفية والإثنية باعتبارها بُنىً ما قبل حديثة. وقد كانت تشكّل، بالفعل، "مجتمعات أهلية"، أو ما يشبه ذلك، وبقيت، في رأي بطاطو، كما هي العصر الحديث الذي نشأ بسبب انخراط العراق في السوق الرأسمالية العالمية؛ بمعنى أنها لم تتطوّر، أو تكسب معنًى ومفهومًا جديدَين.
وبينما يُشير بطاطو إلى التداخل بين هذه الهويات وبين البنى الحديثة فقط، فإنّ سعيد يرى أنّ هذه البُنى تفاعلت مع البنى الحديثة، وتطوّرت وأنتجت بنىً جديدة لم يعرفها العصر القديم؛ فبسبب الروابط والتقنيات الحديثة الناشئة، لم تعد هذه البنى مجرّد انتماءات مذهبية، أو مجتمعات أهلية، بل أصبحت طوائف متخيَّلة، بتعبير المفكّر العربي عزمي بشارة، وهو منتج حديث؛ بمعنى أنه ما كان يمكن أن يكون موجوداً لولا الحداثة.
ويخلص سعيد إلى أنّ رؤية بطاطو لا تنفصل عن المركزية الغربية، في افتراض حتمية الحداثة، وفي العجز عن تقديم لغة جديدة لوصف التقدُّم الاجتماعي غير لغة الحداثة الغربية، وفي افتراض أنّ البُنى القديمة تموت أمام الحداثة.
يوضّح سعيد، هنا، أنَّ بحثه يتعدّى مناقشة بطاطو وفهمَه، إذ يسعى أيضاً إلى فحص التماسك المنهجي لمقاربتين مختلفتين في دراسة الطائفية والهويات الطائفية في المنطقة؛ ترى إحداهُما فيها مجرّدَ حاملٍ قديم لصراعات ذات طابع حديث، وترى الأخرى كيف أنّ هذه الهويات تكيّفت مع التحديث، وأسّست لها بناها الخاصة التي ليست موجودة، بالضرورة، ما قبل عملية التحديث. وتنزع الأولى عنها أيّة وظيفة ذات صلة بمضمونها القديم، وتتابع الأخرى كيف خلقت من المضمون القديم رابطة متخيلة، تنافس الروابط الحديثة الناشئة، أو المستنبتة؛ فالأولى هي مقاربة صيرورة التلاشي، والأخرى هي مقاربة ديناميكية التكيف.
ويرى سعيد أن بطاطو هو المثال الأبرز والأهم للمقاربة الأولى. ولذلك، فإنه يؤكّد أنّ مشروعه البحثي لا يسعى إلى أن يفهم جهود مؤرّخ رحل عن عالمنا قبل قرابة عقدين، بل يسعى إلى أن ينخرط عبره في النقاش المنهجي الراهن في كيفية دراسة الطائفية والهويات الطائفية والصراع الطائفي.
يُذكر أن حيدر سعيد حاصل على شهادة الدكتوراه في اللسانيات من "الجامعة المستنصرية" في بغداد عام 2001، ويعمل باحثاً في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، ورئيس تحرير لدورية "سياسات عربية" التي تصدر عنه.