المدرسة هي عملية إعداد للمجتمع، وحين تكون لها مثالب فهذه سوف تظهر مضخّمةً بعد فترة في إطار أوسع. الفردانية، التماثل، التعلّم عبر قناة واحدة وغيرها، جميعها مثالب تصنعها المدرسة ونقف عليها بأشكال أخرى في المجتمع، ولكن الأخطر من بينها هي فكرة أن يجري تصوير المتعة كمبدأ غير مهني.
سنغيّر المجتمع بأكمله لو أننا قلبنا الآية؛ أي لو وضعنا الاستمتاع فوق المنفعة الاقتصادية. يجدر هنا أن نذكّر بجذر كلمة "عمل" (Travail بالفرنسية) في اللغات المتفرّعة عن اللاتينية؛ إذ تنحدر مباشرة من كلمة Tripalium والتي تعني أداة كانت تستعمل في الزمن القديم لإخضاع العبيد المتمرّدين على العمل، وفي استعمالات أخرى كانت تستخدم لتهدئة الخيول الجامحة.
هذه الفكرة منغرسة في لاوعينا الجمعي، أصبح العمل عبارة عن تشابُهٍ مفروض، وحين يكون كذلك فهو مؤلم بالضرورة. ليس ثمة ما هو أكثر خطأ من تأثيم العملِ بمتعةٍ، على العكس ذلك هو المطلوب: أن نحبّ الشيء الذي نعمله. لكن، هيهات، فلا يزال ذلك في عداد النادر.
في الوقت الذي تعتبر مجتمعاتنا أنها متحضّرة على خلفية أن الماء يصلها في حنفيات، وأنوار التيار الكهربائي على بعد ضغطة زر في كل زاوية من البيت، يجدر التنبّه إلى وجود مياه أخرى ينبغي أن تصل إلينا، وأنه يوجد شكل آخر من التيار الكهربائي عليه أن يغذّي مدننا وأن يصل إلى أماكن عملنا؛ إنه تيّار المعنى.
انظر إلى مكاتب الموظفين، وإلى المدارس، وفي الأحياء، هل تجد أن الناس يعرفون لماذا يشتغلون؟ هذه الأماكن قد تبدو للناظر مرتّبة، ونظيفة، ولكنها في العمق مُهملة ومنفّرة، إنها تعاني من تصحّر المعنى، وصحارى المعنى هي أماكن الاتساخ النفساني، إنها في كلمة غير صحّية. فحيث لا يسري المعنى، يتعفّن الناس ببطء وفظاعة غير مرئية.
مرّة أخرى لنعد إلى اللاتينية القديمة، وفيها نجد أن مفردة Animus تعني في نفس الوقت "معنى" و"روح". غير أن الكثير من أماكن العمل بلا أي أثر للروح. الذريعة المرفوعة دائماً هي الإنتاجية، وهكذا تصبح هذه الأماكن فضاءات ملائمة لإنتاج ظواهر من الانهيار العصبي إلى الانتحار.
إذا اعتبرنا أن الإنسان مثل نبتة؛ لنتساءل كيف يجري التعامل معها؟ ثمة تلك الرعاية والمتابعة المنسجمة مع الطبيعة والتي تنتظر الثمرة في موعد نضجها، وثمة الضغط عليها كي تنتج ثمرتها. الضغط منهج خطّي، قائم على التوقع، سهل الإدارة، ولكنه في نهاية الخط: قاتل. أما الرعاية فهي لا تقوم على التوقّع، غير خطّية، صعبة الإدارة، ولكنها في المحصلة غير قاتلة، بل إنها توفّر عملية إنتاج لانهائية بمعنى ما.
البيروقراطيات تحرص دائماً على الضغط، لأنها الطريقة السهلة، والطريقة السهلة كثيراً ما تخفي عنّا الطرق المؤدية إلى الإبداع والابتكار. البيروقراطية مهيكلة حول هدف وحيد: أن تبيض في نهاية فترة محدّدة نتيجة تكون مستجيبة بأقصى حد للتماثل.
* من فصل بعنوان "أن نلعب، أن نعمل، أن نعيش"، من كتاب "حرّر ذهنك"، لـ إدريس أبركان.
** ترجمة عن الفرنسية: شوقي بن حسن