بعد عشرين عاماً على صعود الرئيس فلاديمير بوتين إلى قمة الهرم السياسي في روسيا، يبدو أن آمال الروس ببناء نظام اجتماعي أكثر عدلاً تبخرت مع زيادة ثروات "حيتان المال" الذين سيطروا على مقدرات الاقتصاد السوفييتي بأبخس الأثمان، وحافظوا على امتيازاتهم مقابل الولاء لسيد الكرملين والابتعاد عن الطموحات السياسية، ما ينذر بانفجار اجتماعي وسياسي بسبب زيادة الشرخ بين الأغنياء والفقراء.
وفي ظل التضييق على الحريات وقمع الصحافة وتدجين المعارضة في روسيا، وعدم إجراء إصلاحات سياسية شاملة، تزداد احتمالات الاحتكام إلى الشارع كما حصل صيف العام الحالي، رغم تشديد القوانين على منظمي الاحتجاجات، والتضييق الواضح على وسائل الإعلام والمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي.
وفيما تعمقت مشكلات نصف الشعب الروسي الاقتصادية في العام الحالي، شكل "حيتان المال" استثناءً واضحاً يخالف جميع المؤشرات في بلد يعاني اقتصاده تحت وطأة عقوبات اقتصادية منذ عام 2014، وتتراجع معدلات النمو والدخل الحقيقي لمعظم سكانه، ما ينذر بانفجار اجتماعي وسياسي بسبب زيادة الشرخ بين الأغنياء والفقراء، وفقدان الأمل بتحسن قريب في الأوضاع المعيشية.
ووفقاً لأحدث تصنيف صادر عن وكالة "بلومبيرغ" الاقتصادية الأميركية، زادت الثروة الإجمالية لأغنى 23 شخصاً في روسيا بمقدار 38.4 مليار دولار في عام 2019، لتصل ثرواتهم إلى 250 مليار دولار، أي ما يعادل سُدس الدخل القومي الروسي البالغ 1.6 تريليون دولار في العام الجاري، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي الأخيرة.
الروس الجدد
اللافت أن جميع الأثرياء الروس الذين دخلوا "نادي أغنى أغنياء العالم"، وفق قائمة بلومبيرغ، يجمعهم العمل في قطاع النفط والخامات، بعدما سيطروا عليها بأبخس الأثمان، باستغلال عمليات الخصخصة التي شابها كثير من الفساد في تسعينيات القرن الماضي، ولعل الأهم هو قربهم وولاؤهم المطلق للكرملين، وابتعادهم عن السياسة، وخلو القائمة من أي منتقد لسياسات بوتين.
حصاد رئيس شركة "نوريلسك نيكل" فلاديمير بوتانين كان الأوفر، فالملياردير، صاحب المركز السادس ضمن قائمة "فوربس" لأغنياء روسيا، زادت ثرواته بأكثر من الثُّلث لتصل إلى 25.6 مليار دولار، مع ارتفاع أسهم شركته التي تعدّ أكبر شركة في العالم لإنتاج النيكل والبلاديوم.
ومعروف أن بوتانين من أصدقاء بوتين المقربين، ويجمعهما حب الهوكي، وساهم في تمويل مجمعات رياضية في أثناء التحضير لأولمبياد سوتشي 2014 بقيمة 2.5 مليار دولار.
— Bloomberg (@business) December 21, 2019
|
وجمع بوتانين ثروته في تسعينيات القرن الماضي، عبر ابتكار برنامج "القروض مقابل الأسهم" الروسية في أثناء عمله في وزارة التجارة الخارجية مطلع التسعينيات، واستطاع كثير من أثرياء روسيا، بمقتضى البرنامج، السيطرة على أسهم كبريات الشركات الروسية بأثمان بخسة، فقد قدموا قروضاً للحكومة الروسية بنسب مرتفعة مقابل حقوق الملكية في شركات الموارد الطبيعية في البلاد.
ومع عدم قدرة حكومة الرئيس الأسبق بوريس يلتسين على سداد هذه القروض، سيطر "الروس الجدد" على هذه الشركات، ومنهم بوتانين الذي اختار "نوريلسكنيكل"، إضافة إلى بعض الشركات النفطية الصغيرة، وخدمات في الموانئ.
وفيما اختفى أفراد عائلة بوتين وأصدقاؤه المقربون من قائمة أغنى الأغنياء، يظهر اسم غينادي تيمتشينكو بثروة تصل إلى 22.7 مليار دولار، منها 4.1 مليارات جناها في العام الحالي. وتكشف السيرة الذاتية لتيموشينكو أنه على علاقات جيدة مع بوتين منذ الطفولة، وتوثقت العلاقة بينهما في تسعينيات القرن الماضي عندما عملا معاً عند عمدة سان بطرسبورغ الراحل أناتولي سوبتشاك.
ومع أن تيموشينكو كان في طليعة مستغلي قوانين الخصخصة، واستفاد منها بتأسيس شركات كبرى وامتلاكها، إلا أنه برز في شكل واضح في مقدم قائمة كبار "حيتان المال" بعد معاقبة الملياردير ميخائيل خودروكوفسكي مالك "إمبراطورية يوكوس" النفطية لطموحاته السياسية في 2004.
Counting down The Hockey News' People Of Power And Influence:
|
وأسس تيموشينكو الحاصل على الجنسية الفنلندية مع شريك سويدي، شركة "غونفر" التي عهد إليها تصدير منتجات شركة يوكوس التي آلت إلى "روسنفت" الحكومية، ويملك قرابة ربع أسهم "نوفاتيك" للغاز، إضافة إلى 80 في المئة من شركة "ستروي ترانس غاز" لتشييد خطوط نقل الغاز بالأنابيب، و17 في المئة من أسهم شركة "سيبور" للصناعات البتروكيماوية.
وإضافة إلى حيتان المال، يصل عدد أصحاب الملايين بالدولار إلى 246 ألف شخص فقط، من أصل قرابة 140 مليون مواطن في بلد يعدّ أكبر منتج للنفط في العالم، وأكبر مُصدّر للغاز الطبيعي عبر الأنابيب، ومصدراً مهماً للخامات المعدنية، ومن كبار مصدّري الحبوب العالميين.
ويسيطر أغنى 10% من المجتمع على 83% من الثروة القومية لروسيا. وفيما يُقبل مزيد من أغنياء البلاد على شراء اليخوت الفارهة، والطائرات الخاصة، ويسيطر 5% من الروس على أكثر من 70% من ثروات البلاد، وفق بيانات تقرير أعدته مدرسة الاقتصاد العليا الروسية في النصف الثاني من العام الحالي.
تكشف البيانات أن الأزمة المعيشية لدى الغالبية العظمى من سكان روسيا تتعمق، إذ يعجز نحو 70% منهم عن توفير مستلزمات الحياة البسيطة، ما ينذر، حسب خبراء، بتحول روسيا إلى نموذج بلدان أميركا اللاتينية، مع تسبب سياسات الدولة الاقتصادية والاجتماعية بتجمّع الثروات في جيوب وحسابات الأقلية "الأوليغارشية" الموالية للكرملين، مقابل زيادة أعداد الفقراء باطّراد.
جنة لأصحاب المليارات
وفي مقال نشرته "غازيتا رو"، تعليقاً على زيادة ثروات "حيتان المال"، اتهم الخبير الاقتصادي ميخائيل ديلياغين، المشرف على معهد قضايا العولمة، الحكومة بتحويل البلاد إلى "جنة لأصحاب المليارات"، ويشير في تعليق على زيادة ثروات الأغنياء إلى أنه "في البلدان ذات النموذج الإبداعي للاقتصاد، تزداد ثروات الناس طرداً مع زيادة الثروة الاجتماعية.
أما إذا كان النموذج يعتمد على استغلال أو على الأصح، نهب الممتلكات التي أنشأتها الأجيال السابقة، فإن أصول المليارديرات تنمو في نهاية المطاف بسبب سلب حقوق جميع المواطنين الآخرين".
ويشير العديد من خبراء الاقتصاد والاجتماع إلى عيوب في النظام الضريبي الروسي، ويصفونه بـ"المصمم لزيادة ثروة الأثرياء وتعميق فقر الفقراء".
ويرى ديلياغين أنه "كلما كان الشخص (في روسيا) أغنى، تزداد الفرص المتاحة له لتخفيف العبء الضريبي، إذ يمكن تسجيل نشاطه كرائد أعمال فردي ودفع 6% من الدخل لموازنة الدولة، فيما يجبر العاملون البسطاء على دفع 13% من دخلهم ضريبة للدولة، من دون استثناءات حتى بالنسبة إلى أولئك الذين يكسبون دون مستوى الكفاف".
وحسب البيانات الرسمية، نمت واردات الموازنة الروسية في 2018 بنحو 17% مقابل ارتفاع دخل المواطنين بنحو 0.1%، من دون أي تحسن ملموس في قطاعات الصحة والتعليم.
وفي استطلاع لمركز "ليفادا" في الأيام الأخيرة من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أعرب 30% من المستطلعة آراؤهم عن قناعتهم بقرب انفجار احتجاجات ذات مطالب اجتماعية اقتصادية، بسبب انخفاض مستويات المعيشة في روسيا.
وأكد 72% من المستطلعة آراؤهم أن مصالح المجتمع ومصالح الدولة لا تتقاطع، وقالوا إن "السلطات تعيش على حساب المواطنين، ولا تهتم كثيراً بكيفية معيشة الناس"، وأشار 41% من الروس إلى تعمق مشكلة عدم عدالة التوزيع العادل للثروات.
وتعليقاً على نتائج الاستطلاع، يرى عالم الاجتماع ومدير مركز "ليفادا" لاستطلاعات الرأي، ليف غودكوف، أن النظرة المتشائمة "ترتبط مباشرةً بالركود في الاقتصاد وتراجع دخل السكان"، موضحاً في تعليق نشره موقع "ليفادا" أن حالة التذمر، عززتها فضائح الفساد المختلفة والمتكررة من قبل المسؤولين الحكوميين.
وفي استطلاع للرأي أجراه مركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام مطلع نوفمبر، أعرب نحو نصف الروس (48%) عن قلقهم وعدم ارتياحهم بشأن مستقبلهم، وقال 41% من المواطنين إنهم على يقين بأن العام المقبل لن يحمل أي تغيير إيجابي بشأن مستوى معيشتهم مقارنة بالعام الحالي، فيما توقع 23% من المستطلعين تدهور الأوضاع نحو الأسوأ.
إقبال متزايد على القروض
ومع تردي حالة المواطنين الاقتصادية، ازداد الإقبال على القروض بنحو لافت، وكشفت إحصاءات حديثة أن 40 مليون مواطن روسي، أي أكثر من نصف الروس البالغين، يعيشون تحت عبء ديون ائتمانية لا يمتلكون دخلاً ثابتاً يضمن سدادها. ووصل الحال إلى أن بعض الصيدليات بدأت ببيع الأدوية التي تتجاوز قيمتها ثلاثة آلاف روبل (أقل من 50 دولاراً بالتقسيط).
ويرجع الخبراء فورة الاقتراض الأعلى منذ يوليو/ تموز 2012، إلى هبوط الدخل الحقيقي للروس، فيما تفرض البنوك المملوكة لـ"حيتان المال" نسبة فائدة على القروض الائتمانية تزيد على 30% سنوياً، ما يعمق أزمة ديون الفقراء، ويزيد أرباح البنوك والمؤسسات المالية.
وفي محاولة للبحث عن إيجابيات في حياة الروس، بادر مركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام الحكومي إلى تنظيم استطلاع يقارن بين أوضاع الأسر المعيشية في عامي 2000 و2019.
ورغم أن الجواب كان مرضياً للنخب الحاكمة، مع تأكيد 80 في المئة أنهم راضون عن مستوى حياتهم حالياً ويعيشون أفضل بكثير، سخر بوتين من نتائج الاستطلاع، بعد موجة انتقادات من قبل الخبراء لمقارنة الأوضاع في بلد كان على شفا الانهيار الاقتصادي بعد أزمة 1998 المالية التي سبّبت تراجع دخل المواطنين بنحو 65%، و15% في 1999، وانهيار الطبقة الوسطى عملياً، وبين روسيا الحالية التي تضاعف حجم اقتصادها عدة مرات وتشهد استقراراً عكس سنوات التسعينيات العصيبة.
وفي اجتماع مع الحكومة منذ أيام، طالب بوتين التركيز على تحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين الروس، لكن الناطق باسم الكرملين ديميتري بيسكوف، نفى مناقشة اقتراحات محددة للتخفيف عن فقراء روسيا، رداً على أنباء عن نية الحكومة إلغاء ضريبة الدخل عن الروس الذين يتقاضون دخلاً أقل أو يساوي الحد الأدنى للمعيشة كانت قد تقدمت به رئيسة مجلس الاتحاد (الشيوخ) الروسي فالنتينا ماتفينكو في الشهر الحالي.
ومع دفع فقراء روسيا ثمن طموحات الكرملين بتأدية دور عالمي أكبر، وزيادة ثروات "القطط السمان" الذين أنقذهم الكرملين من التأثر بالعقوبات الغربية، والأزمات العالمية بتوفير السيولة اللازمة لهم، ومنحهم إمكانية التحكم بقطاعات أكبر من الاقتصاد الروسي، يبدو واضحاً أن الأمل بتغيرات جدية على مستوى الحياة في فترة بوتين الرئاسية الأخيرة، وفق الدستور الحالي، ذهب أدراج الرياح.
وتزداد القناعة لدى مزيد من الروس بأن سيد الكرملين لم يكن جاداً في حملاته لمحاربة الفساد التي نادى بها في بداية حكمه، وأن محاربة بعض "حيتان المال" النافذين، مثل بوريس بريزوفسكي وفلاديمير غوسينسكي ولاحقاً سجن مالك إمبراطورية "يوكوس" النفطية ميخائيل خودروكوفسكي، كانت بسبب طموحاتهم السياسية، ووسيلة لدفع معظم رجال المال إلى الرضوخ لسلطة الكرملين المطلقة للمحافظة على ثرواتهم، وعدم توجيه أي انتقادات للسلطات عبر وسائل الإعلام المملوكة لهم.
ولعل الأخطر أن حكم بوتين أفرز طبقة جديدة من الأغنياء المرتبطين به بعلاقات متينة، بعضهم يظهر للعيان، وآخرون يديرون عملياتهم بسرية عبر شخصيات لم يعرف سبب ثرائها السريع.
في ظل اقتصاد ريعي يعاني مشكلات هيكلية باعتماده المفرط على تصدير النفط والغاز والخامات، إضافة لاحتكار وهيمنة الحكومة عبر مؤسسات قابضة على القطاعات المهمة في البلاد وهيمنة فساد مستشر، وعدم وجود نظام قضائي مستقل، يحذر خبراء اقتصاد روس من انفجار مقبل للفقراء مع انعدام العدالة الاجتماعية ضد النخب السياسية والاقتصادية الحاكمة على غرار ما جرى في تشيلي ولبنان وغيرها.