حياةٌ لم نعِشها

08 يونيو 2020
انتبهت لكنّ رصاصة القناص قتلتها بمنزلها (جوزيف عيد/فرانس برس)
+ الخط -
نشر صديق قبل أيام صورة قديمة، بالأبيض والأسود، على صفحة فيسبوك الخاصة به، لسيدة جميلة تبتسم لآلة التصوير أمام بستان من الأشجار وكتب فوقها: "عشتُ حتى الآن 36 عاماً بلا أم".

تأمّلت ملياً في الصورة التي انهمرت عليها أيقونات القلوب والدموع والإعجاب وصرت أفكّر في صاحبتها وابنها الذي خسر أمه في سن باكرة، وكان بعد فتى لم يتجاوز المراهقة. لم أكن أعرف شيئاً عن يُتم الشاب من قبل، فتجرأتُ على سؤاله عن سبب الوفاة المبكرة، لأعرف منه أنها قُتِلَت برصاصة قناص في عام 1984 في منطقة رأس النبع البيروتية. المنطقة التي كانت خط تماس معروفاً بين أكثر من طرف مليشياوي.

كان صديقي يشاهد التلفزيون مع والدته في ذلك اليوم عندما اخترقت الرصاصة التي أطلقتها ملّالة عسكرية سكون ذلك المنزل وغيّرت مسار يومياته إلى الأبد. كان يجلس بالقرب منها. أما المعركة العسكرية التي قامت في ذلك اليوم تحديداً فقد افتعلها تنظيم مليشياوي احتفالاً بتعيين رئيسه وزيراً في الحكومة.

عرفتُ أيضاً أن الصورة التقطت في عام 1977، وقد أعطتها الوالدة لابنها تعويضاً عن عدم مشاركته في الرحلة التي التُقطت فيها الصورة، وكانت إلى الصومال، مع وعد بأن يرافقها في مرة أخرى. لم تكن تعرف أن هذه الصورة ستظلّ تذكاراً دائماً من أثرها.

ما زال صديقي يبحث إلى اليوم في أشياء والدته، لكنه، وهو المشارك في صناعة الكتب ونشرها يتردّد في كتابة ذكرياته على الورق. يفضل الاحتفاظ بها في قلبه، لأنها إذا خرجت ربما زادت من جراح ذلك القلب. يقول إنه لو لم تصب تلك الرصاصة والدته لكانت اليوم في الرابعة والسبعين من عمرها. غير أنه حاسم بأن خسارة الأم ليست أسوأ ما أصابه، بل إن ما فاقم هذه الخسارة هو بقاء زعماء المليشيات أنفسهم - الذين تقاتلوا وقتها وما يزالون - في مواقع السلطة التي احتلوها إلى اليوم من دون إمكانية للتخلص منهم.



تشبه هذه القصة قصصنا اليومية في هذه البلاد التي تعوّدنا على مراكمة الجراح فيها. وهذا أسى ليست له حدود، والناجون في العادة هم الذين يتحمّلون المصائب الأقل أذية. كم كانت الحياة لتتغيّر لو لم تعبر تلك الرصاصة في ذلك اليوم اللعين. وكم كانت حياة كثر ستتغيّر لولا هذا الرصاص العابر في يومياتنا ومصيرنا طوال الوقت. رصاص حقيقي ومعنوي يطلقه زعماء المليشيات أنفسهم الذين يتحكمون في حياتنا، وفي موتنا أيضاً.

وربما لم تكن هذه بلاد للحياة، بل لتعداد الخسارات المستمرة. لكننا لا نعلم ذلك بعد.
المساهمون