حول الرواد.. تاريخ الفن في سورية بعين ناقدة

17 سبتمبر 2017
(عمل لـ توفيق طارق، 1875 - 1940)
+ الخط -

يبدو من الصعب الحديث عن رسامين محترفين في سورية حتى الثلاثينيات من القرن العشرين. وسيكون من الأصح القول إنه بدءاً من هذه السنوات شرع سوريون مثل عبد الوهاب أبو السعود (1897 ـ 1951) وسعيد تحسين (1904 ـ 1986) وقبلهم بقليل من السنوات توفيق طارق (1875 ـ 1940)، يصوّرون وفق قواعد الفن الغربي، معالجين مواضيع لم يكن الموروث المحلّي يعرفها. كانت تلك مرحلة انتقالية في تاريخ الفن التشكيلي تنوس بين اكتشاف هذا الفن واعتماده.

وقد أطلق النقد السوري، وبشكل أوسع العربي، مصطلح الروّاد لكي يشير إلى الفنانين الذين كانوا الأوائل في ممارسة الفن الغربي الحديث. ونعتقد أنه كما أخذ الفنانون السوريون الكثير عن نظرائهم المصريين، باعتبارهم قد سبقوهم إلى هذا المضمار، فقد أخذ النقاد السوريون أيضاً عنهم مصطلح "الرواد" واعتمدوه في دراساتهم ومقالاتهم.

وفي الحقيقة، "يبيّن هذا المصطلح إلى أية درجة كانت فكرة أنه لم يكن هناك فن قبل اعتماد الفن الغربي راسخة بشدة". فباستخدام كلمة "الرواد"، فإن "النقد يؤكد على السمة الجديدة تماماً (أو المفترضة كذلك) لهذه الممارسة"، كما تكتب سيلفيا نايف Silvia Naef، في كتابها "بحثاً عن حداثة عربية".

وهذا ما يؤكده أيضاً تعريف كلمة رائد في اللغة العربية، فهو "من يمهّد سبيلاً من السبل أمام الآخرين" أو "من يتقدَّم القومَ يُبصر لهم الكلأ" وهو بالطبع مشابه لمعنى الكلمة بالفرنسية على سبيل المثال، في أنه الشخص الأول الذي بدأ عملاً ما، من دون أي تقييم لمستوى عمله.

ويطرح مصطلح "رواد" عدة أسئلة لا تخصّ الفن في سورية فقط بل أيضاً في البلدان العربية التي تبنت أو اعتمدت هذا المصطلح. فالبعض يتجاوز موضوع الريادة التاريخية ليتكلّم عن ريادة تاريخية وفنية في آن واحد، بمعنى قيام هؤلاء بإبداع أعمال ذات سوية عالية، مبتكرة وأصيلة.

كذلك ينفي البعض فكرة عدم وجود صلة ما بين الفن في منطقتنا وهذا الفن المتمثل باللوحة والمنحوتة، التي تكلمت عنها الباحثة السويسرية نايف، وذلك بالإشارة إلى وجود تراث تصويري متمثّلٍ برسوم بعض القصور الأموية أو بالأيقونة المسيحية المحلية... فهل أعمال الرواد هي أعمال أصيلة؟ ما هي سويتها؟ هل الأعمال التي مارسها هؤلاء "الرواد" هي أعمال فنية لها علاقة بتراث المنطقة الفني؟ أو بالأحرى، هل وجود تراث تصويري في المنطقة يكفي لنقول إننا لا نقلّد الغرب ولا نعتمد فنّه؟

في سنة 1965، يكتب الفنان محمود حماد (1923-1988) وقد عاصر في شبابه الكثير منهم، "اشتغل هؤلاء في ظروف اجتماعية صعبة للغاية، فمهنتهم لم تكن تلاقي تجاوباً ولا سوقاً في محيطهم. وكان أكثر المهتمّين بالنتاج الفني ملتفتون بالدرجة الأولى لجمع التحف من القاشاني والطنافس الفارسية، وهي تحف تحمل معها دوماً قيمتها المادية. ما عدا القليل النادر الذي كان يهتم باقتناء لوحة ما".

وهذا ما يؤكّده جميع من كتب عنهم حين يتطرّقون في حديثهم إلى الظروف الاجتماعية التي عاشها هؤلاء، كي يبرّروا المستوى المتواضع لكثير من الأعمال التي تركوها (وهنا لا نعمّم). في هذا الصدد يقول الفنان منير الشعراني: "لا يمكننا محاكمة الروّاد ـ على اختلاف مستوياتهم ـ على أساس ما نفعله اليوم فلولا دورهم لما وصلنا إلى هنا، ولربما لو كنّا مكانهم لما استطعنا أن نقوم بما قاموا هم به"، أي أن التسمية لها علاقة بالمرحلة التاريخية ولا علاقة لها إطلاقا بالتصنيف الإبداعي، فالتصنيف أو الحكم سيتطلب مقارنة ولو بسيطة مع ما يحدث في الغرب في نفس المجال... ولا مجال للمقارنة!

في المقابل، يصف لنا الفنان والناقد أسعد عرابي في لقاء مُسجل (باريس، سنة 2000) الرسامين الرواد بأنهم أشبه بهواة غير موهوبين. ويأخذ عليهم بأنهم لم يقوموا سوى بإعادة إنتاج تشكيلات مستوردة أو منسوخة عن بطاقات بريدية أوروبية واستشراقية، نافياً عن أعمالهم صفة الأصالة. وربما يثير هذا النقد القاسي موجة سخط كبيرة من كثيرين، فعرابي ينظر إلى الأمر بمنطق يخلو من العاطفة، وهو يقيّم العمل الفني بمعزل عن أي ظروف أخرى اجتماعية أو تاريخية مرّ بها صانعوه.

ونحن لا نستطيع أن ننكر أن كثيراً من أعمال هؤلاء كانت تحمل مهارة تقنية معينة لكننا في الوقت عينه لا نسنطيع أن نرى فيها شخصية فنية ناضجة، ناهيك عن أنهم لم يتمردوا على أنفسهم فبقوا يرسمون ويصورون حتى أواخر حياتهم بنفس الطريقة التقليدية.

لا نطلب التسليم بما قاله عرابي، وإن كنا نجد فيه شيئاً من الحقيقة، فبإمكان الجميع نقد أفكاره أو التأكيد عليها ولكن بإعطاء البراهين للاقتراب من كتابة التاريخ التشكيلي كما هو، بعين ناقدة. وربما هذا ينسحب على كتابة تاريخ الفن في العراق أو مصر أو غيرهما من دولنا العربية... فاحترام مجهود "الرواد" برأينا أمر منفصل عن التأريخ السليم للفترة تلك.

المساهمون