حمص.. رسالة إلى الغائب الأكبر

12 مارس 2014
يوميات حمص في وثائقي لطلال ديركي
+ الخط -

كيف يتحوّل شاب بشوش ومسالم ورياضي إلى مقاتل شرِس، بعينين مطفأتين، يفكّر في الموت كهدف وخلاص وإنجاز للذات؟ الجواب في فيلم المخرج السوري طلال ديركي، "العودة إلى حمص" (89 دقيقة)، الذي نال أخيراً جائزة أفضل فيلم وثائقي أجنبي في الدورة الثلاثين لمهرجان "سانداس" الأميركي للسينما المستقلة، وعُرض الأسبوع الماضي على قناة "أرتي" الفرنسية بعنوان: "حمص، يوميات ثورة".

تبدأ أحداث الفيلم في شهر آذار/ مارس 2011، الذي انطلقت خلاله التظاهرات الشعبية ضد نظام الأسد. وبسرعة يضعنا المخرج أمام شبّان من حمص في حالة غليان كبيرة، يتناقشون في السياسة وفي وضعهم المزري الذي سيدفعهم، مع حلول الصيف، إلى النزول إلى الشارع للتظاهر السلمي، حاملين يافطات تدعو الجيش إلى عدم قتل شعبه.

وعلى رأس هؤلاء الشبّان، نتعرّف إلى عبد الباسط الساروت الذي يحترمه أبناء حيّه لنزاهته وتمكّنه من نزع لقب ثاني أفضل حارس مرمى في آسيا. ونظراً إلى دوره القيادي في التظاهرات، يطارده رجال الأمن وتتعرّض عائلته لإطلاق نار على يد شبّيحة النظام. وبسرعة تنتشر الثورة في جميع أنحاء حمص، فتفتح عناصر الجيش نيران رشاشتها على المتظاهرين، بينما تنشط أجهزة الاستخبارات في اعتقال المدنيين وتعذيبهم.

ومع اكتشاف عبد الباسط وأصدقائه مجازر النظام التي طاولت المستشفيات والمساجد في الخريف، تتبدّد سذاجتهم دون أن يتجرأوا بعد على مواجهة الموت، كما يتجلى ذلك في المشهد الليلي المؤثّر الذي نرى فيه عبد الباسط وثلاثة من رفاقه داخل سيارة، مترددين في عبور أحد المحاور المشتعلة.

وفي 4 شباط/ فبراير، يحصد قصف بقذائف الهاون 200 شخص في المدينة، معظمهم من العجائز والأطفال. إنها نهاية الحلم بثورةٍ سلمية. لكن أسامة، صديق عبد الباسط، يتمسّك بكاميرته معتقداً أن فضح بربرية النظام بالصور كافٍ لردعه. وتحت قنابل الجيش النظامي تنهار حمص كمدينة من رمل تحت المطر، ويُصاب أسامة إصابة بليغة، فيتحوّل عبد الباسط تحت أنظارنا إلى قائد عسكري. كما يتحوّل رفاقه من مراهقين في الأمس القريب، إلى مقاتلين هاجسهم الدفاع عن مدينتهم وأهلهم بجميع الوسائل المتاحة.

أما العالم الخارجي فيبدو الغائب الأكبر عن مأساة حمص، لولا العبور الخاطف لستّة مراقبين من الأمم المتحدة تأمّلوا الدمار بعيون جاحظة ثم رحلوا. ومع حلول صمت مقلق على المدينة، تنقطع أخبار عبد الباسط الموجود على الجبهة منذ شهرين، قبل أن نعرف أنه أُصيب في قدمه، ونشاهد رفاقه ممدّدين على الرصيف بثيابٍ ملطّخة بالدم. فقط أسامة يلازم المسجد ويمضي وقته في الصلاة، قبل أن يُخطف وهو في طريقه إلى المستشفى، فيتوارى كلياً عن الأنظار.

ربيع 2012 أسوَد مثل جدران المدينة. خلال دفن أحد الشهداء، يفتح قنّاص النار على المكلومين فيهربون وهم يحملون النعش الأبيض، قبل أن يعودوا بعد فترة هدوء قصيرة لحفر القبر بسرعة. ففي حمص، يموت الناس حتى خلال دفن أمواتهم. ومع مرور الصيف، يتبيّن لنا أن جميع رفاق عبد الباسط قد قُتلوا أو جرحوا أو تعرّضوا لصدمة رهيبة. أما هو فنجده في الخطوط الأمامية، بين الركام، البندقية في يده ونظرته شاردة في البعيد. وفي هذا الوضع الرهيب، ننتحر عادةً برصاصة في الرأس، أو نقف أمام القنّاص بلا ورع كي يصطادنا، أو نتابع القتال بشجاعة نادرة لمعانقتنا مراراً شبح الموت وتحرّرنا من ماضينا ومستقبلنا.

وهذا ما سيفعله عبد الباسط تحت أنظارنا، أي متابعة القتال حتى النهاية بغية فتح طريق إمدادات ضروري من أجل إغاثة العائلات الباقية داخل المدينة. وفي هذا السياق، نراه يهاجم تحصينات جيش النظام بلا كلل أو يتسلسل إلى خارج حمص بحثاً عن مساعدة ثم يعود إليها من خلال نفقٍ خفي.

باختصار، عمليات عسكرية يتعذّر إحصاؤها، ولا تضع حداً لها إصابات هذا الشاب المتتالية وفقدانه إحدى قدمَيه في آخر المطاف.

قيمة هذا الفيلم تكمن خصوصاً في عدم محافظة المخرج ـ أثناء تصويره ـ على مسافة من أبطاله الذين يقودون معركةً غير متكافئة مع نظام الأسد. فمن خلال حميمية عبد الباسط المحارب وأسامة المسالم، يجعلنا ديركي نعيش من الداخل الاحتضار البطيء لبلدٍ يستولي الموت عليه بلا رادع، لكن من دون الوقوع في فخ التلصصية.

المساهمون