حماس وإسرائيل إلى تهدئة طويلة

16 مايو 2015

وسط دمار خلفه العدوان الإسرائيلي في خان يونس (أ.ف.ب)

+ الخط -
بات واضحاً أن حركة المقاومة الإسلامية حماس وإسرائيل، على حد سواء، ولكل منهما اعتباراته، تقومان بكل ما في وسعهما لمنع المواجهة العسكرية المقبلة في قطاع غزة، بعد مرور أقل من عام على انتهاء المعركة الأخيرة. 

تهديد عسكري

واصلت إسرائيل في الأسابيع الأخيرة زيادة كميات البضائع المدخلة إلى غزة يومياً، وأوعز وزير الدفاع لرئيس هيئة أركان الجيش ومنسق شؤون المناطق للقيام بخطوات جدية، وبعيدة المدى، لإيجاد واقع يجعل من الصعب على سكان غزة المغامرة بحرب جديدة، فيما تبذل المؤسسة العسكرية جهوداً لإقناع المستوى الأمني، ممثلاً بجهاز الشاباك، بالموافقة على إدخال عمال من غزة للعمل في إسرائيل، لأن الموافقة على هكذا خطوة ستساهم في إيجاد أفق إيجابي لسكان القطاع.
تعلم إسرائيل أن التحدي المركزي الذي يواجهها، هذه الأيام، يكمن في كيفية إجبار القيادة السياسية في حركة حماس وسكان غزة على منع الفصائل المسلحة من تنفيذ خططها العسكرية التي تعدها، وإبقائها في الأدراج فترة طويلة، عبر تحسين حياة سكان القطاع، بشكل يجعل لديهم ما يخسرونه في الحرب المقبلة، ولذلك، تبذل إسرائيل، عبر مستوياتها السياسية والأمنية والعسكرية، جهوداً واضحة، وبشكل تدريجي للقيام بمجازفات مدروسة، لمنع اندلاع المواجهة المقبلة، وتتم هذه الخطوات بشكل ممنهج تجاه القطاع، بعيداً عن الأنظار.
مناسبة هذه الجهود الإسرائيلية تحصل بالتزامن تدريجياً مع إنضاج شروط قد تسمح بانعطافة مهمة في الساحة الفلسطينية، فالاتصالات غير المباشرة بين إسرائيل وحماس على وقف نار بعيد المدى في غزة، قد تنضج، أخيراً، لتصبح اتفاقاً، ستؤثر بوضوح على ميزان القوى في مثلث إسرائيل وحماس والسلطة الفلسطينية، وفي العلاقات الوثيقة مع مصر.
وتجري هذه الاتصالات التي اختلف في تسميتها بين "مباحثات، دردشات، نقاشات" منذ بضعة أشهر، ويعمل في هذا الشأن وسطاء كثيرون، من الأمم المتحدة، أوروبا، قطر، لانتزاع التزام من حماس، وربما مرفقاً بضمانات من جهات أخرى، للانضمام لوقف نار إنساني، والامتناع عن أي أعمال عسكرية متبادلة على مدى فترة تمتد من 3 إلى 5 سنوات، في مقابل تسهيلات اقتصادية مهمة للقطاع، وتخفيف الحصار.
في المستقبل، قد تفكر إسرائيل بخطوات سبق أن رفضتها بعناد في الماضي، كإقامة ميناء بحري في غزة تحت رقابة خارجية، ومثل هذه الفكرة قد تغريها، لأنها ستسمح لها بأن تعرض حرب غزة إنجازاً بعيد المدى، بحيث تشرح موافقة حماس على وقف نار طويل المدى بأنها انعكاس لنجاح الجيش في المعركة.

تخفيف الحصار
المستوى العسكري الإسرائيلي، بدءاً من قادة المنطقة الجنوبية، والاستخبارات العسكرية، الشاباك، وهيئة الأركان؛ يرون في غزة تهديدًا عسكريًا، لأن حماس عاودت حفر الأنفاق وتصنيع الصواريخ، ما جعل تل أبيب تبلور "مسلكًا مدنياً"، لتخفيف الحصار عن غزة، مع مراقبة شديدة لكل المواد والبضائع المزدوجة الاستخدام، وإلا فإن طنجرة الضغط ستنفجر مرة أخرى في غزة، وفي كل مرة تنفجر فيها، يكون الضرر أكبر من السابق.
تعلم إسرائيل جيداً أن كلمة حماس تعني "الشيطان الأكبر" في نظر الإسرائيلي البسيط؛ لأنها اليوم عدو مخضرم معروف أفضل بكثير من باقي البدائل، كالقاعدة وداعش والفوضى الدموية التي تطرق بوابات إسرائيل من كل حدب وصوب، ففي الجولان مواجهة شديدة بين مسلحي جبهة النصرة وجيش الأسد وحزب الله، وبدأ الأردن يتلقى تهديدات وعمليات على الحدود الرئيسة من داعش، وفي سيناء تسود فوضى بوحي من التنظيم.
كما أن إسرائيل، من خلال "تسوية، صفقة، تهدئة، هدنة" في غزة، لن تكون مطالبة بتنازلات مبدئية لحماس، كالاعتراف العملي بها، أو بانسحاب من أجزاء من الضفة الغربية، على العكس من ذلك، فإن تسوية مع حماس ستساعد، من وجهة النظر الإسرائيلية، على صد الادعاءات الدولية بأنها لا تفعل شيئاً في القناة الفلسطينية، وهذه التسوية في غزة ستعفي الجيش بشكل مؤقت من وجع رأس مقلق، وتسمح له أن يركز على المواجهة القاسية ذات الاحتمالات العليا في الاشتعال شمالاً.
تدرك إسرائيل جيداً أن القيادة السياسية لحماس في غزة تميل إلى تأييد هذه الصفقة، فبعد ثلاث حروب ضارية خلفت فيها إسرائيل دماراً فظيعاً في القطاع في غضون خمس سنوات، من المشكوك فيه جداً أن تكون لدى حماس ورجالها رغبة في جولة قتالية أخرى في الزمن القريب المقبل، ولذلك، يبدو أنها مستعدة لتقبل شروط الاتفاق. أما السلطة الوطنية الفلسطينية، فهي تعارض بشدة أي اتفاق بين حماس وإسرائيل، خشية صعود قوة الحركة على حسابها، بالتزامن مع استمرار الجمود في قناة الاتصالات السياسية التفاوضية. ولذلك، شهدنا تغطية موجهة رافضة للاتصالات بين حماس وإسرائيل في وسائل الإعلام التابعة والمقربة للسلطة، عبر اتهام حماس بالاستعداد للتخلي عن مطلب حل القضية الفلسطينية، والتسليم العملي للفصل القسري بين الضفة والقطاع.
المثير في الأمر أن هذه المفاوضات بين حماس وإسرائيل عبر أطراف ثالثة، تجري بالتزامن مع ما دأبت على أن تكشفه أوساط عسكرية إسرائيلية، أخيراً، عن إخفاقات عسكرية ميدانية لأداء الجيش الإسرائيلي في حرب غزة، والاتهامات الموجهة للحكومة الإسرائيلية بالعجز عن التعامل مع أنفاق حماس، وتسريبات "خطيرة" حول التحقيق العسكري الذي أجراه الجيش عن تفجير ناقلات الجند في الأيام الأولى من حرب غزة، وكان لافتاً في الاعترافات الإسرائيلية أن وسائل إعلام حماس، تناقلتها سريعاً، وباتت حديث الساعة في غزة، لأن ما تمت ترجمته من تقارير إسرائيلية من اللغة العبرية إلى العربية أظهر ضعف الجيش الإسرائيلي وبسالة المقاتل الفلسطيني.
حماس، وإن اعتبرت أن التسريبات الإسرائيلية تشكل اعترافاً إضافياً بهزيمة الجيش الإسرائيلي، وانتصار المقاومة في حرب غزة، فقد أصيبت بالنشوة من هذه الاعترافات الإسرائيلية، وقد تبدو محقة في ذلك، لأنها معنية بأن تظهر الجانب الإيجابي من يوميات القتال مع جيش إسرائيل، بعد عدم تحقيقها الأهداف المعلنة من الحرب، المتمثلة برفع حصار غزة وفتح المعابر وإنشاء الميناء والمطار.

كلفة الحرب

هناك من يقول في إسرائيل وحماس أن هذه التسريبات الإسرائيلية التي حظيت بانتشار غير مسبوق من التداول بين الفلسطينيين، جاءت لتقدم إفادة تحتاجها حماس في ظل حالة التذمر التي تسود أوساط الفلسطينيين في غزة لعدم تحقق وعودها بتحسين أوضاعهم بعد الحرب. ومع ذلك، لا تبدو كل هذه الاعترافات الإسرائيلية المسربة إيجابية، فقد تخفي أهدافاً استخبارية تخشاها حماس، تتعلق بكشف أسرار عسكرية تحتاجها إسرائيل.
يدرك الفلسطينيون الأكثر دراية بإسرائيل أنها دولة متغطرسة لا تقبل الهزيمة، وعلى الرغم من أنها لم تنكر الخسارات التي منيت بها خلال حرب غزة، فإن نشرها لإفادة عشرات من الضباط والجنود يثير علامات الاستفهام حول الهدف الخفي منها، فهي لم تتعود أن "تنشر غسيلها القذر" على الملأ أمام الجمهور الإسرائيلي.
ويمكن اعتبار الحديث عن التسريبات الإسرائيلية جزءاً من ثقافة إسرائيلية للتقييم المتواصل لأداء الجيش، وربما استدراجاً لحماس لكشف معلومات أمنية، وفرصة لكي يراجع الفلسطينيون أخطاءهم في الحرب الأخيرة، وقد تكون مقدمة لتضخيم قدرات حماس العسكرية، لتهيئة الرأي العام الإسرائيلي لشن حرب جديدة عليها. مع العلم أن التأريخ العسكري للجيش الإسرائيلي دأب على نشر اعترافات فشله وإخفاقه بعد مرور سنوات وعقود على انتهاء الحروب، كما حصل في حربي 1973 ضد مصر وسورية، و2006 ضد لبنان، لكن نشرها بعد مرور أقل من عام على انقضاء حرب غزة، أثار قلق حماس، بجانب ترحيبها!
من الفرضيات السائدة في أوساط حماس، أخيراً، عقب مواصلة إسرائيل لنشر اعترافاتها وإخفاقاتها أن قيادة الجيش قد تسعى إلى التحضير لحرب جديدة في غزة، وتريد أن تستبق اندلاعها، وتمهّد لقتل ودمار أكثر في الحرب المقبلة، وتهيئة الأجواء النفسية للجيش، كي يتقبل خسائره من دون شكوى. وفي الوقت نفسه، قد يتعلق برغبة صناع القرار الإسرائيلي بإشاعة أجواء الخوف والقلق لدى الرأي العام لعدم العودة من جديد إلى حرب ضد غزة، لأنها تحمل أنباء غير سارة وخسائر بشرية كبيرة.
أخيراً... تعلم إسرائيل بعد ثلاث حروب وثماني سنوات حصار أن "حماس موجودة في غزة لتبقى هنا"، حتى وإن دخل الجيش غزة، وأسقط حكم الحركة، فلن يتغير شيء، لأن عناصرها سيعودون عندما يخرج الإسرائيليون. صحيح أن إسرائيل تجد صعوبة في التسليم بهذه الحقيقة، لكن، من المهم أن تعرف أن هذه حقيقة الوضع، وإذا كان كذلك، ترى إسرائيل أهمية أن تستخلص منه أفضل ما فيه، من خلال تهدئة طويلة الأمد مع حماس.
1CF9A682-2FCA-4B8A-A47C-169C2393C291
عدنان أبو عامر

كاتب وباحث فلسطيني، دكتوراة في التاريخ السياسي من جامعة دمشق، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمة في غزة، له العديد من المؤلفات والأبحاث والدراسات والمقالات.