حلم التيار الديني الصهيوني: إسرائيل مصدرة لـ"الهايتك" ومنارة لـ"الأغيار"

14 سبتمبر 2016
بينت: المرحلة المقبلة هي لتصدير الروحانيات للعالم(جيل كوهين/فرانس برس)
+ الخط -
خطا وزير التربية والتعليم الإسرائيلي، نفتالي بينت، خلال مشاركته، أخيراً، في مهرجان صندوق دعم وتعزيز تعليم اليهودية، في قيسارية، خطوة إضافية نحو تعزيز التصورات الدينية اليهودية لمستقبل دولة الاحتلال. وأعلن خلافاً لشعاره المرفوع منذ توليه منصبه الوزاري بوجوب رفع مستوى تعليم العلوم والرياضيات في إسرائيل لأنهما السلاح لمواجهة المستقبل، واعتبر أن تعلم اليهودية وشرائعها أهم من العلوم والرياضيات. 

وفاجأت تصريحاته عدداً كبيراً من الإسرائيليين ممن ظنوا أن الصهيونية الدينية لن تقدم، على الأقل حالياً، على رفع شعارات يلوح بها اليهود الأصوليون من الحركات الحريدية، والذين يرفضون أن تشمل مناهج التعليم لأولادهم في المدارس المواضيع العلمية المختلفة. ويردد هؤلاء الادعاء التقليدي بأن كراسة التوراة وحدها كفيلة بحماية "شعب إسرائيل"، كما حمته على مر الزمن والأجيال الماضية.

ولم يكتف بينت الذي كثف في السنوات الأخيرة من برامج ومناهج تعليم الرياضيات والعلوم ورصد أكثر من ملياري شيقل في ميزانية التربية والتعليم لهذه الغاية، بتحديد أولوية تعلم اليهودية وشرائعها، باعتبارها تسبق العلوم والـ"هايتك" (التقنية المتقدمة). علماً أنه كان صاحب شركة من شركات "الهايتك" الناجحة، والتي بيعت بعشرات ملايين الدولارات. بل زاد على ذلك عندما أعلن أن المرحلة المقبلة من رؤيا الصهيونية الدينية هي مرحلة "تصدير الروحانيات للعالم كي تكون إسرائيل ليست مصدرة للهايتك فحسب، وإنما أيضاً للروحانيات، بما يعني الوصول عملياً إلى دولة يهودية تكون منارة للأغيار". لكن خلافاً للتصوّر الحريدي بأن الدولة ستكون دولة شريعة يهودية توراتية بمفاهيم تراثية دينية فحسب، فإن بينت يرى أن هذه الدولة ستكون دمجاً للهايتك والتوراة.

وقال بينت حرفياً: "تعلم اليهودية والتميز بها هو أهم في نظري من تعلم الرياضيات والعلوم، لأننا أيضاً دولة عظمى في مجال الهايتك، كما نصدر التجديدات للعالم علينا أن نكون أيضاً دولة عظمى روحانياً تصدر الأفكار الروحانية لكل العالم. هذه هي المرحلة المقبلة من الرؤيا الصهيونية لنا، هكذا نعود منارة للأغيار" (غير اليهود). ويعيد هذا التصريح طرح مسألة العلاقة بين اليهودية وإسرائيل، وبين اليهودية الدينية والصهيونية.

لكنه بالأساس يعيد إلى أذهان التيارات الصهيونية المختلفة الموقف الأساسي والمبدئي لمؤسسي التيار الديني الصهيوني منذ أواخر القرن التاسع عشر، والمتمثل باعتبار الصهيونية ليست حركة كفر بقدر ما هي أداة إلهية لتطبيق مشيئة الرب على طريق الوصول إلى دولة التوراة والشريعة اليهودية. ووضع هذه المفاهيم مؤسسا التيار الديني الصهيوني في روسيا بالقرن التاسع عشر، الرابي يهودا شلومو القلعي، والرابي إلياهو هيرش كلايشر.

وركز الاثنان في بدايات نشاطهما على الترويج والدعوة لتيار ديني يقبل بالصهيونية من باب الاعتقاد بأنه لا يمكن تحقيق خلاص اليهود بالطرق السلبية التي يدعو إليها الحريديم، والتي تقوم على انتظار مجيء المسيح المنتظر، ومعه الهيكل، ليخلص اليهود. بل بوجوب تسريع ذلك من خلال العمل الإنساني لليهود أنفسهم عبر الهجرة إلى فلسطين والعمل في الأرض واستخدام اللغة العبرية في الحياة اليومية وليس اقتصارها على الأمور الدينية (كما يفعل الحريديم). وهي خطوات تسرع كلها في تطبيق حلم الأنبياء اليهود وتؤدي مستقبلاً إلى عودة المسيح.





وكان لهذه البدايات ونقاط الالتقاء بين المعسكرين الصهيوني العلماني وأتباع القلعي وكلايشر، ولاحقاً الرابي أبراهام يتسحاق هكوهين كوك، المؤسس الفعلي والتنظيمي للتيار الديني القومي في فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي، دور مهم في التحالف بين الصهيونية العامة والتيار "الديني القومي"، كما يطلق عليه رسمياً، حتى اليوم. ومنذ تلك البدايات، وقف التيار الديني القومي إلى جانب الصهيونية، والتزم بالمشاريع الرسمية لحكومات الاحتلال من دون أن يحشر نفسه في حروب دينية مع المؤسسة، مؤسساً علاقته على دور العشرات من أنصاره في القتال إلى جانب عصابات الهاجاناه والليحي الإسرائيلية.

وأسس التيار لشرعيته من خلال رفعه شعار الصهيونية واليهودية معاً، واندماجه في المشروع الصهيوني. وأكثر ما يميزه الخدمة العسكرية، باعتباره يدفع ضريبة الحرب والقتال، ويمثل اليهودي الديني العصري كما تريده الصهيونية، والذي يجمع بين الحياة العصرية والالتزام بالفروض الدينية، ولا يعيش نمط حياة يهود "الدياسبورا" (الشتات الذي عاشه اليهود في أوروبا).

وفيما ركزت أحزاب الحريديم، خصوصاً بعد الانقلاب السياسي في إسرائيل عام 1977، وصعود الليكود بقيادة مناحيم بيغن، على مطالب حياتية بالأساس، انطلق معسكر التيار الديني القومي، ممثلاً بشبيبة حزب المفدال، وقيادتهم آنذاك، زبولون هامر ويتسحاق هليفي، والرابي ليفنجر، للمطالبة والضغط المكثف لتعزيز الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية.

وإشهار الأبعاد الدينية تم من خلال نشاط مكثف قادته في وسائل الإعلام حركة غوش إيمونيم الاستيطانية التي تعني ترجمة اسمها "كتلة الإيمان". واختارت منذ البدايات الاستيطان في الضفة، خلافاً للمستوطنات الزراعية لحركة حزب العمل في غور الأردن، والمرتفعات، والتلال ذات الأهمية العسكرية والاستراتيجية، في مناطق وبؤر استيطانية ذات دلالات يهودية تاريخية وأسطورية، مثل الخليل، وسبسطية، وبتير، ومحيط بيت لحم، ونابلس.

وعليه، يمكن القول إن من شأن تصريحات بينت أن تضع علامة استفهام حول مستقبل اللقاء التاريخي بين "التيار القومي الديني" الذي بات يسمى اليوم، على الأقل عربياً، التيار الديني الصهيوني، وبين الصهيونية العامة، وتحديداً اليمين الصهيوني العلماني، في ظل السعي المتواصل لبينت وحزبه، إلأى تقديم البعد الديني اليهودي على القومي العلماني الصهيوني. ويزيد ذلك من أزمة الليكود في المجتمع الإسرائيلي في حال لم يتحرك لمواجهة هذه النزعة التي تربط القومية اليهودية بالخلاص الديني، كما تجلت بتصريحات بينت، ورؤية هذا التيار لدور ومستقبل الصهيونية كأداة إلهية لتقريب الخلاص، بحسب تعبير المؤسس الفعلي لهذا المعسكر، الرابي هكوهين كوك.