حلاق نابلس العتيق

10 مايو 2015
لا يفكّر وليد حلاوة في التقاعد يوماً (نور حميدان)
+ الخط -

قبل عقود عديدة، كان الحلاقون بالنسبة إلى أهالي نابلس أطباء الأحياء أيضاً. فيعالجون المرضى ويقتلعون أسنانهم ويدوّنون لهم الوصفات، ويقصّون شعورهم ويحلقون ذقونهم... كان ذلك في قديم الزمان. أما اليوم، فصالونات الحلاقة تتخصص فقط في قص الشعر والتجميل.
بيدَين لا ترتجفان، ما زال يستخدم وليد حلاوة مقصاً قديماً يحتفظ به منذ عشرات السنين، ويعقمه باستمرار. هو لا يرغب في الاستغناء عنه، إذ لا يثق في آلات الحلاقة الحديثة، ويصرّ على إبقاء صالونه على حاله. هو يعتبره جزءاً من تراث البلدة القديمة في مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية.

وليد حلاوة في عقده التاسع، لكن يحبّ التشديد على أنه يبلغ من العمر 86 عاماً بالتمام. هو يعمل في مهنة الحلاقة منذ 70 عاماً، من دون أن يملّ من مقصه ومشطه الصغيرين. في صالونه، يجد قاصده فرشاة قديمة ما زالت تنصع بياضاً، ومرآة صغيرة، وكرسياً من الحديد يغطيه بعض الإسفنج، بينما يحاول مواكبة العصر من خلال تلفاز صغير يمنح زبائنه شيئاً من التسلية.
هنا، تكثر صور الأبناء والأحفاد وكذلك الأجداد. أما نارجيلته فحاضرة دائماً، هو لا يستطيع الاستغناء عنها. إلى ذلك، لا يخفي تعلقه بركوب الدرجات الهوائية مذ كان طفلاً، وهو ما زال يفعل ذلك حتى اليوم ويفتخر به من دون أي حرج. أما درّاجته، فيركنها في إحدى زوايا صالونه.

على كرسي الحلاقة، جلس رجل هو زبون دائم يشير إلى أنه لا يسمح لأي أدوات حلاقة بلمس رأسه وذقنه، باستثناء أدوات حلاوة. بدا وكأن بينهما معرفة طويلة، إذ راحا يتحدثان عن قصص قديمة وذكريات أيام زمان. وفي حين يمضيان في حديثهما، يُذكّران بعضهما بعضاً بمواقف عديدة، فيضحكان تارة ويتحسران على "زمن جميل مضى" تارة أخرى.
في حارة الياسمينة، حيث يقع صالون حلاوة، الكل يعرف هذا الرجل. وكبار السن يذكرون جيداً أنهم كانوا يقصدونه لحلاقة شعورهم وذقونهم، والحصول على خدمات علاجية في كثير من الأحيان. مهنة الحلاقة كثيراً ما كنت ترتبط بعلاج المرضى بما يُعرف اليوم بـ"الطب البديل" أو التداوي بالأعشاب والمواد الطبيعية، لكن حلاوة اليوم لم يعد يعمل في هذه المهنة، ويكتفي بحلاقة الشعر والذقن.

ويؤكد لـ"العربي الجديد" أنه يتمسك بمهنته حتى آخر يوم في حياته، قائلاً: "لم أملّ يوماً منها، ربما لأنني أحبها، ولأنني لا أحتاج لأولادي أو لأي كان بعد هذا العمر الطويل". يضيف: "في مهنتي لا أستخدم سوى ماكينات الحلاقة القديمة ولا أحب الحديث منها. لا أحب مواكبة العصر، والقديم عنوان لحياتي".
زبائن حلاوة من كبار السن، فهو يرفض كل قصات الشعر الحديثة التي يبحث عنها الشباب، إذ بالنسبة إليه هي تنتقص من الرجولة. يضيف "من السهل جداً تعلم القصات الحديثة، لكنني لا أرغب في ذلك. لا أرغب في أن أكون سبباً في إنقاص رجولة الشباب". ويتابع مازحاً أن "ما نشاهده اليوم هو قصات شعر ما أنزل الله بها من سلطان".

جدران صالون حلاوة بمثابة لوحة تاريخية تؤلفها مجموعة من الصور. ويفتخر بصورة والده في اللباس التقليدي، وإلى جانبها صورة شقيقه الشهيد إبراهيم حلاوة الذي سقط في "معركة الكرامة" (مارس/آذار 1968). وإلى جانب هاتَين الصورتين، أخرى لأحد زبائنه كبار السن الذي استشهد في اجتياح عام 2003 لمدينة نابلس.
يشتهر وليد حلاوة بروح الفكاهة الحاضرة دائماً لديه. وهو على الرغم من التزامه الديني وأدائه الصلاة في المسجد، إلا أنه يستمتع بمشاهدة الرقص الشرقي. يقول: "البعض ينتقدني بسبب ذلك. فعندما أعود من المسجد إلى الصالون، أبحث عن أفلام قديمة تتضمن مشاهد رقص شرقي. أحب مشاهدة هذا الفن، وأتحمل نقد الناس لي. أنا لا أريد الاستغناء عن الأشياء التي أحبها".

ويتحسّر حلاوة على زبائنه الذين يفارقون الحياة، فيقول مازحاً: "الزبون الذي يموت لا يأتيني غيره. كل زبائني من كبار السن". ويكرّر: "الشباب يريدون أن أقصّ لهم شعرهم على مزاجهم، ولن أفعل لأنهم يريدون قصات خليعة".
على الرغم من عدم إقبال الشباب على صالون حلاوة، إلا أنهم يكنّون له احتراماً كبيراً. ويشير أحد الشباب الذي كان يجلس بالقرب من الصالون ويدعى عمر، إلى أنه "لو يقبل قصّ شعري كما أريد، لأصبحت وكل أصدقائي من زبائنه الدائمين. لكنه يصرّ على عمله بالطريقة التقليدية".
ويتذكر عمر أن والده كان يصطحبه إلى الحلاق حلاوة عندما كان طفلاً. ويروي: "كان يحلق لي شعري بالموسى بالكامل ولا يترك لي شعرة واحدة، ويقول لوالدي إن ذلك أنظف وأفضل للمدرسة". ويلفت عمر إلى أن "هذه القصة كانت تتسبب لي في عقدة وتثير استهزاء زملائي. لكنها اليوم أصبحت على الموضة".

وليد حلاوة يعدّ نفسه "متمرداً". هو يرفض إغلاق صالونه يوم الإثنين من كل أسبوع الذي يصادف يوم عطلة الحلاقين الرسمية التي أقرتها نقابتهم. ويشدّد على أنه غير معنيّ بكل هذه القوانين، بالتالي يُبقي أبواب صالونه مفتوحة أمام زبائنه يوم الإثنين. أما يوم العطلة بالنسبة إليه فهو الجمعة.
المساهمون