سارع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وكعادته بعد وقوع جرائم القتل والتدمير والتخريب الإسرائيلية، إلى إبداء ذهوله وهلعه من فظاعة جريمة القتل التي أودت بحياة الشهيد الرضيع الفلسطيني علي سعد دوابشة، متوعّداً بملاحقة المجرمين وتقديمهم للعدالة، التي تُقدّم بدورها كل التسهيلات لتخفيف وطأة الجريمة، وتغيير مسمياتها وتوفير طوق نجاة لمرتكبيها.
هذا هو الحال في جريمة قتل الطفل الرضيع، أمس الجمعة قرب نابلس، لكن القاتل ليس مجرد فرد أو مجموعة من أفراد عصابات الإرهابيين اليهود الذين تسميهم إسرائيل عصابات "جباية الثمن"، التي قامت لترد على المقاومة الفلسطينية وتنتقم رداً على عملياتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة.
فالنيران التي قتلت وأحرقت الطفل دوابشة هي تلك النيران التي أحرق بها المجرمون اليهود قبل عام تقريباً الشهيد محمد أبو خضير، ولم يكن للفزع الذي أبدته إسرائيل على لسان نتنياهو ورئيسها رؤبان ريفلين، أي معنى حقيقي، فهي لم تتعدَ كونها محاولات لنفي المسؤولية عن الجريمة. وهي المسؤولية التي يتحمّلها أولاً وقبل كل شيء نتنياهو انطلاقاً من كونه رئيس حكومة دولة احتلال، لا يمكن أن ينتظر أحد منها شيئاً غير القتل والإرهاب والمصادرة والتحريض الدموي.
ولعله من المهم التذكير أن حكومات نتنياهو منذ أول حكومة له في العام 1995 وحتى حكومته الرابعة، عززت وغذت تيار الصهيونية الدينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، واحتضنت غلاة المستوطنين في مدينة الخليل، وهو ما فتح الطريق أمام الرئيس الإسرائيلي للمشاركة في تشييع أحد أكبر غلاة الربانيين المتطرفين، والمدان بجريمة قتل تاجر فلسطيني في الخليل، وهو الحاخام موشيه ليفينغر، الذي حظي بنعي صهيوني من نتنياهو.
وقام نتنياهو بتوسيع مساحة المظلة الحاضنة لغلاة المستوطنين إلى أقصى حد، وقدّم وزراؤه المرة تلو الأخرى تصريحات تمجّد قتل الفلسطينيين، مع تقديم كل الدعم والحماية لقتلة الأطفال والنساء والفلسطينيين العاديين سواء كانوا من المقاومة أم من المدنيين.
ففي عهد حكومة نتنياهو الثانية انطلقت وتأسست عمليات عصابات "جباية الثمن" الإرهابية، لكن حكومات نتنياهو الثلاث الأخيرة غضت الطرف عنها منذ أن انطلقت بداية في عمليات تخريب لممتلكات الفلسطينيين في الضفة الغربية وتدنيس المساجد وانتهاكها وإحراقها، ثم انتقلت للتدنيس والاعتداء على الكنائس في أديرة الضفة الغربية والقدس المحتلتين، وانتقالاً إلى المساجد والكنائس في فلسطين التاريخية في أراضي 1948 بدءاً من مسجد طوبا الزنغرية في أقصى الشمال ومروراً بمساجد وادي عارة وأم الفحم وكنائس يافا وانتهاء بكنيسة الطابغة في شمالي فلسطين قبل أقل من شهر. كل هذا من دون أن تقوم حكومة الاحتلال بجهد فعلي للقبض على المجرمين، أو تقديم لوائح الاتهام بحقهم بعد أن تكون قبضت على بعضهم لغبائهم عند التنفيذ بحجة عدم وجود دلائل ملموسة.
وقد تمكّنت عصابات "جباية الثمن" الإرهابية خلال خمسة أعوام من انطلاقها في العام 2010 وحتى اليوم، من تنفيذ أكثر من 788 جريمة منها 400 جريمة واعتداء إرهابي خلال العام 2014 وحده، ولولا المكانة التاريخية والقيمة الدينية واللاهوتية العالية لكنيسة الطابغة، وكونها تدار من قبل رهبان الفرنسيسكان، ولا تقع في بلدة عربية فلسطينية في الداخل، لما أعلنت حكومة الاحتلال مطلع الأسبوع عن تمكّنها من القبض على منفذي الاعتداء.
اقرأ أيضاً: استشهاد رضيع فلسطيني حرقاً في هجوم للمستوطنين قرب نابلس
ويشار إلى ما لفت إليه المعلق العسكري في موقع "يديعوت أحرونوت"، رون بن يشاي خلال تعليقه على جريمة القتل، عندما أعلن أنه ليس لسلطات فرض القانون، الكنيست والمحاكم أن "تغسل يديها"، بمعنى أن تتنصل من الدم المسفوك ولا أن تتبرأ منه. وأضاف: "لو أقدمت هذه السلطات على وضع مجرمي جرائم "جباية الثمن" رهن الاعتقال الإداري لسنوات طويلة لكان بالإمكان منعهم من تنفيذ مآربهم. ولو كانت هذه السلطات تعاقب الحاخامات اليهود الذي يوفرون لهم "الفتاوى" الدينية اليهودية لكان عددهم تضاءل".
وذكّر بن يشاي أن هؤلاء وقبلهم رجال التنظيم الإرهابي اليهودي الذي نشط في الثمانينيات (وحاول قتل رؤساء الفلسطينيين المنتخبين والمحسوبين على منظمة التحرير الفلسطينية) "ليسوا مجموعة من المجانين. بدليل أن غالبية الإرهابيين اليهود هم من العقلاء والأذكياء القادرين على إخفاء الأدلة وبالتالي لا توجد أدلة تدينهم أو تتيح تقديمهم للمحاكمة".
ومع أن بن يشاي يبدو كمن يحاول تحديد مدى قصور حكومات الاحتلال، عبر فرضياته أعلاه والتي أرفقها باستمرار بأنه "لو تمت معاملة الإرهابيين اليهود كما عومل الإرهابيون العرب"، عبر إسقاط الفارق الجوهري والأساسي بين عناصر المقاومة ومن يقاومون الاحتلال وبين المستوطنين المدعومين من الحكومة الإسرائيلية وأحزاب ائتلافها المختلفة، إلا أنه يغيب عن باله سيل التصريحات التحريضية الداعية للقتل التي صدرت في العامين الأخيرين من أقطاب الحكومة مثل تصريحات وزير الأمن الداخلي السابق يتسحاق أهرونوفيتش بعد عمليات الدهس في القدس المحتلة، حين دعا إلى انخراط كل من يملك تصريحاً من اليهود في حمل السلاح إلى حمله في كل مكان لقتل كل من يحاول تنفيذ عملية، أو تصريحات وزير التربية الحالي، نفتالي بينت، الذي بارك منذ العام الماضي أفراد الشرطة الذين استشهد على أيهم أحد أبناء كفر كنا، خير حمدان، وعاد وأبدى تأييده لقائد الجيش الذي قتل الأسبوع الماضي شاباً فلسطينياً عند أحد حواجز الضفة الغربية.
بل إنه لا يمكن لحكومة نتنياهو أن تتنصل من مسؤولياتها وهي التي شجعت غلاة المستوطنين عندما اعتدوا حتى على جنود الاحتلال الذين يحرسون، في أكثر من مناسبة، وبصقوا عليهم في أكثر من موقع في الضفة الغربية المحتلة، ناهيك عن الازدراء الكبير الذي يبديه أعضاء الكنيست وزراء الحكومة للجهاز القضائي وسلطة القانون، كما تجلى ذلك في تصريحات نائب الوزير موطي يوجيف أمس الأول الداعية لتوجيه الجرافات لهدم محكمة العدل العليا.
ويبقى أخيراً الالتفات إلى التوصيف الرسمي الإسرائيلي لجرائم عصابات "جباية الثمن" المذكورة، واعتبارها في القانون الإسرائيلي، وفي وسائل الإعلام الإسرائيلية، بأنها جرائم كراهية، مما ينزع عنها مباشرة أية نية عنصرية فاشية وأية دوافع قومية، ويحوّلها إلى جرائم مأخوذة من حقل العلوم الاجتماعية، باعتبارها جرائم تستهدف جماعات اجتماعية معينة انطلاقاً من أفكار نمطية مسبقة وعدم تقبّل للآخر، مما يسقط تلقائياً صفة الإرهاب عنها، وبالتالي يخفض من سقف العقوبة الجنائية التي يفترض أن تُفرض على مرتكبيها، بعدما تراجعت من جرائم إرهاب مع سبق الإصرار والترصد إلى جرائم وقعت بدافع الحقد والكراهية.
وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن تبرئة ساحة السلطة الفلسطينية في رام الله من مسؤوليتها المباشرة هي الأخرى عن هذه الجريمة، لموافقتها على الاستمرار في التنسيق الأمني مع الاحتلال، لضمان أمن دولة الاحتلال، وانسحاب قواتها الأمنية من بلدات ومدن الضفة الغربية المحتلة، حتى تلك الواقعة ضمن المنطقة "أ" التابعة للسيطرة الأمنية والسياسية المطلقة للسلطة الفلسطينية، لمجرد دخول قوات الاحتلال إلى هذه المدن والبلدات لتنفيذ عمليات اعتقال بحق عناصر المقاومة المطلوبين لسلطات الاحتلال. كما أن تركها المطلق للصلاحيات الأمنية على المناطق "سي" وعدم فعلها شيئاً لحفظ أمن المواطن الفلسطيني زاد من استباحة هذه العصابات الإجرامية لبلدات الضفة الغربية المحتلة.
اقرأ أيضاً: جيش الاحتلال يرفع جهوزيته بعد استشهاد رضيع فلسطيني