حكواتي: يومها الأول

13 أكتوبر 2014
الخطوات الأولى / Getty
+ الخط -

 

تذكر مشيتها الأولى وهو قابض على كفّيها الصغيرتين. كانت تنظر إليه كأنها فرحة بذاك الإنجاز.عيناها تلك اللحظة كانت تختصر معنى السعادة المطلقة المعكوسة على عينيه. مشت صغيرته على طول الرواق الذي حاول برجليه إزاحة بقايا الألعاب كي يؤمن لها طريقاً سهلاً.

المشية الأولى للطفل ذكرى لا يمحيها أي تراكم آخر في البال. المشية الأولى لأطفالنا لها نبضات قلب العشاق. سعادة لا تشبه غيرها في الحياة. كان شريط تلك الذكرى يمر على رأسه وهو ينظر إلى حقيبتها المدرسية الأولى. مطرة المياه الخاصة بها، التي اختارتها بلون زهري. كان يفكر باليوم الدراسي الأول لها في حياتها. نامت صغيرته، وهو ينفث سيجارته على الشرفة، ويتذكر أول كلمة "بابا" لفظتها.
لم يرض أن يقلّها باص المدرسة. آثر أن يصاحب صغيرته، ذهاباً وإياباً، في السنة الدراسية الأولى لها. اليوم استيقظت باكراً لتكسر عادة عمرها 3 سنوات ونصف. كان يصرّ على تقبيل جبينها وهي نائمة قبل ذهابه إلى العمل. اليوم هي من قبلت وجنته صباحاً بينما كان يرتشف قهوته. وقفت تنظر لأمّها وهي توضب لها حاجاتها وتجهز لها السندويشات وعلبة العصير الصغيرة. اليوم لن تأكل السندويش في غرفتها وهي تشاهد الكرتون. لن تركض في أرجاء البيت محاولة تقليد أصوات الأقزام السبعة في حكاية "بياض الثلج". اليوم ستغيب طفلتهما لـ 8 ساعات أو أقل عن عينيهما.
اختار صمته وصوت فيروز في السيارة. جلست الطفلة فرحة بمشهد تراه أول مرة. كانت تراقب الباصات المدرسية والأطفال الذين يتوجهون إلى مدارسهم برفقة أهلهم. أكدت لوالدها مجدداً أنها سعيدة بالذهاب إلى المدرسة. لن تبكي كما وعدت أمها، كررت على مسامعه ما أخبره إياها عن ضرورة المدرسة للأطفال. بحماسة شديدة وصفت له كيف كتبت على اللوح الصغير الذي اشتراه لها. شرحت في السيارة أن لعبة "الأستاذة" التي كانت تمارسها في المنزل ستتحول إلى حقيقة. هي سعيدة، وكان يعرف أن فضولها الطفولي، وشجاعتها التي زرعها وزوجته فيها، سيتغلبان على خوف الأطفال في اليوم الأول.
نزلا من السيارة فحمّلها الحقيبة الصغيرة على ظهرها. تذكر اللحظات التي كانت تهرول فيها عارية الكتف شغباً بعد "الدوش" فيلحقها ليقنعها بارتداء "الفانيلة" خوفاً عليها من البرد. خاف عليها من أثر الحقيبة على كتفها الصغير فعدّل لها حمالتها. تأكد مجدداً من مطرة المياه خاصتها.عادت به الذكرى كيف كان يدب النشاط به بعد منتصف الليل حين تناديه طالبة الماء. لحظة يرمي بها تعب العمل والارهاق فيقصد المطبخ عائداً بكوب المياه ليستمع بوقع شفتيها عليه، وكركرة المياه التي تحدثها. كان يفوز بقبلة جديدة مع كل كوب مياه. اليوم ستشرب وحدها في المدرسة، وسينتظر يوماً كاملاً حتى يحظى بقبلة صغيرته.

دخلا معاً باحة الملعب. اقتربت منهما مدرسة بابتسامة عريضة وطلبت منه المغادرة، فطفلته وصلت. ابتسمت الطفلة بدورها ولوحت بيديها لوالدها. أرخى قبضته عن كتفها لأول مرة في حشد بشري. حين كانا يزوران مدينة الملاهي لم يكن ليفعلها. لم يفعلها حتى في زحمة الأطفال في العيد عند جدّيها. سيفلت طفلته لأول مرة في مكان حيث لا هو ولا والدتها. سرق مجدداً قبلة منها وأكد لها أنه سيكون على الموعد بعد الظهر، مشيراً إلى المكان الذي سينتظرها فيه. هزت برأسها مؤكدة أنها فهمت، كانت ترمي بنظرها إلى والدها تارة وإلى الاطفال في الملعب تارة أخرى. طلبت المعلمة مجدداً منه أن يذهب كي لا تتأثر الطفلة كبعض الأطفال ويداهمها البكاء.
طفلته لا تبكي. قضى الصيف كله يحكي لها عن المدرسة وعن تلك اللحظة. طفلته لا تبكي. هي تعرف أن لا سبب للبكاء كما أفهمها قبل أيام.
مضت مسرعة لتختفي وسط زحمة الأطفال. حاول أن يلقي النظرة الأخيرة قبيل مغادرته. لمحها تحاول أن تنضم لجمع من البنات الصغيرات اللواتي وقفن في حلقة للعب. ابتسم لحياتها اليومية الجديدة. غابت طفلته عن عينيه وركب سيارته. عادت إلى خاطره مشيتها الأولى. عيدها الأول. الموعد الأول مع طبيبة الأسنان. حمل الهاتف مطمئناً زوجته بأن طفلتهما لم تبك. أكد لها شجاعة ابنتهما واستعدادها لتلك الحياة الجديدة. مضى نحو عمله يحدث زميله في المكتب عن شجاعة ابنته. أكد له أنها لم تبك. باشر عمله مرتبكاً وهو ينظر إلى ساعة يده. تذكر أن عليه العودة إللها بعد 7 ساعات. عادت به الذاكرة ليوم ولادتها. مرّ شريط الذكريات سريعاً أمامه. طفلته لم تبك، لكنه فعل. أخفى وجهه خلف يديه وبكى، فبعض أيام الدراسة الأولى لا يحتكر دموعها الأطفال.

المساهمون