حكواتي: مع فريدا الخارجة من صورتها

23 يناير 2015
فريدا التي أعرفها لها حاجبان عاديّان وشعرها أسود غامق(Getty)
+ الخط -
لا أخاف من التكرار، الشعري، الموسيقي، الفني، أو ذوقي في النساء. ولكن الرتابة تشعرك أحياناً بالندم لأنّك لم تتمسّك بعدم الاستقرار الذي كنت تعيشه. في المقهى ذاته، في الشارع ذاته، أكرّر نفسي، ولا أخاف. في نصّي، في صورتي، في نشازي الموسيقي وبحّة صوتي... لا أخاف.

لا أخاف. وعشرات النساء يحاصرن ذهني كلما مشيت في هذا الشارع، ومئات أبواق السيارات تثقب طبلة أذني وتتنشّق ضيق نفسي. الروتين اليومي يحفر في جسدي أنامل، أتوق للخلاص منها، ولكنّها لا تنفكّ تعانقني في الصميم. كلّ يوم تنام المدينة على أنغامٍ سعيدة وأناشيد تُلقى من أجل غدٍ أفضل.

في لوحة فريدة من نوعها، فريدا كاهلو تشرد أمامي متأمّلةً بغدٍ أفضل. كئيبة، غامضة، بلونٍ خافت، تقول لي "أتمنى أن يكون خروجي من الدنيا ممتعاً - وأتمنّى ألا أعود إليها ثانية".
تطير فريدا من إطار الصورة، تطير عالياً، لا يمكن لأحد أو شيء أن يلتقطها، باستثناء الغيوم.

لكنني وجدت فريدا، في الحائط ذاته على الشبكة ذاتها، وهي ما زالت تبهرني بشجاعتها على لصق الحاجبين. من المكسيك إلى بيروت. فريدا في شارع الحمرا تتسكّع. فريدا في المقهى تستمتع بقهوتها. فريدا في الملهى ترقص كأنّ الغد هو اليوم الأخير في حياتها.

فريدا التي أعرفها، حاجباها عاديّان، وشعرها أسود غامق الحرارة، وهي بالطول المناسب لطولي. فريدا لم أعرفها سوى منذ عام 2009 كصديقة أصدقائي، لم أعرف اسمها حتى عام 2014، ولذلك كنت أسمّيها فريدا.

تخبرني عن ما مضى معها من رجالٍ يشبهون دييغو ريفيرا، "خائنين، سفلة، الطابع الفني يأسر أذهانهم، الجميع دييغو ريفيرا، الجميع فنّان، والجميع سكّير والجميع من دون شخصية، والجميع شرّير"، تقول لي بصوتٍ خافت وابتسامة عريضة تشرق على وجهها. "وماذا تفعلين في الشارع معي الآن؟" أسألها. لا تجيبني. تمشي نحو سلّة المهملات لترمي الورقة التي كانت تلفّ بها سندويشتها.

قلتُ لها "لا تعرفينني جيّداً، ولا أعرفك جيداً، لكنّنا نعلم أنّنا موجودان في هذا الشارع الآن، في هذه الساعة وهذه الدقيقة، لنخبر بعضنا البعض عن تجاربنا السابقة، لعلّنا نتشارك شيئاً لن يسبقنا إليه سوانا". ابتسمتْ ولم تقُلْ شيئاً.

نمشي في شارع الحمرا، نتكلّم عن كلّ ما هو سلبي فيه، من فنجان القهوة المسعّر بعشرة دولارات أميركية، إلى محلات الألبسة التي تدعم إسرائيل، إلى الفنادق التي لا تخدم سوى من يمتلك أبراجاً، والحانات التي تعجّ بالأطفال، يشكو أحدنا للآخر مشاكله مع النوم والأرق، كيف يمضي الليل في التحايل على الأرق والهرب منه واستجداء النوم والتوسّل إليه.

"أحبّ الكلاب أكثر من الرجال"، مشددةً على عدم وفاء أحد عشّاقها السابقين. نصل إلى سيارتها الـ "Samsung"، وكانت تلك المرة الأولى التي أعلم فيها أنّ لشركة سامسونغ طرازاً من السيارات. أعانق فريدا وأقول لها "خليني شوفك.. فلنلتق مرةً أخرى"، فترّد "ايه اكيد، بس انت لازم تنام اليوم، كانا ليلاً ونهاراً طويلين.. نعم بالطبع". لا يمكنني إلا أن أطيع فريدا.

ذهبتُ إلى شقّتي، ونمت. واستيقظتُ في اليوم الثاني لأجد رسالةً منها تقول فيها: "نمت بكير وفقت بكير، شفت الصحّة كيف بتصير، عندما تنام باكراً وتستيقظ باكراً؟ أنا اليوم كتير منيحة، أنا اليوم في حال جيدة جداً، في حال ممتازة".

اطمأنّ قلبي إلى أنّها بخير وأنّها، حيث هي، تشعر بسعادة مؤقّتة على الأقلّ. غادرت فراشي الدافئ وواجهت وحيداً برد الغرفة، ثم باشرت في كتابة تلك الحكاية، عن اليوم الذي قابلتُ فيه فريدا في بيروت، فطارت من إطار الصورة وأكلنا السندويتشات ورمينا أوراقها المبقعة بالدهون، ومشينا معاً حتى أودعتني فراش النوم بعد أرق طويل.
دلالات
المساهمون