حكواتي: حلاق البسطة البيروتي

29 ابريل 2014
نهاية حلاق... ونعيماً
+ الخط -

العم محمد عمر، حلاق منطقة "البسطة" في بيروت، كان أوّل الحلاقين الذين امتهنوا تلك المصلحة في أيّام "عزّها".

يروي كيف كانوا في الخميسنيات يلقبونه بـ"الدكتور". فالحلاق سابقا كان حتّى يقلع الأضراس، وحين تنبت "تعلبة" لأحد أبناء الحيّ كان يقوم باستئصالها. حتّى تعدّت مهنته "الطبية" إلى طهور الأطفال.

محمد عمر هذا هو حلاق "الطاسة". إذ إنّ معظم رجال البسطة مرّوا من تحت طاسته صغاراً. فالطاسة تلك كانت توضع على رأس الطفل فيأخذ الحلاق بقصّ ما برز خارجها من الشعر. وظلّ محمد عمر سنوات طويلة يفرش كرسياً واحداً فقط في المحل. ويذكر العم تماماً كيف كان الرجال يقفون بالطابور أيّام العيد.

حتى وقت ليس ببعيد ظل محمد عمر محتفظاً بعدّته القديمة: مشط العاج الأصلي الذي يقول إنّه هدية من والده. موس إيطالي، والـ777، الكولونيا المفضلة لدّيه، والبودرة الصينية، والخيط لتشذيب الحواجب.

مع تقدم الوقت تعب محمد عمر، حتّى أنّه لم يقتنع بالتسريحات الجديدة. يذكر خلال كأس العالم 2002 أن دخل عليه ابن جاره فؤاد وسأله إذا كان باستطاعته أن يحلق له قصّة مثل رونالدو البرزيلي. تعجّب محمد عمر وقال: "أيّ واحد منهن يا ابني، أنا ما بعرفهن كلهن؟".

منذ ذلك الحين أخذ الشباب ينفضّون عن محل حلاقة محمد عمر. وحدهم الكهول وأصدقاء أيّامه الغابرة واظبوا على زيارته في الأعياد. ومع الوقت رحل زبائن محمد عمر. ودّع أغلبهم الحياة واحداً تلو الآخر. وأصبح الحلاق البسطاوي يمضي وقته خارج الصالون المهجور "تحت الشمسات"، فيبس ظهره، كما يقول. ومع إلحاح الحاجة زوجته وبناته، قرّر أن يؤجّر الصالون ويقبض من بدل إيجاره ما يكفيه لأيّام تقاعده.

بعد أيّام من إعلانه هذا، جاء شابان في مطلع الثلاثينيات واستأجرا الصالون القديم. فوقف أبو عمر بحسرة يشاهد كيف دخلت المرايا الزجاجية الكبيرة، وحلّت مكان المراية التي زيّنها بصوره أيّام الشباب وفي ساحة البلد، وصوره مع نائب وأخرى مع فنّان وشخصيات مرّت في صالونه.

أدهشته كرسي على شكل سيّارة، عرف أنّها مخصّصة للأطفال. آلات حلاقة كهربائية بمختلف القياسات، والشمع و"ماسك للوجه". تفحّصها بعينيه. رضي بقسمة الزمن القائلة "لكلّ زمان رجاله".

وقرّر ذات يوم أن يزور الشابّان في دكانه القديم. فجلس على الكرسي الإيطالي الفخم طالبا من الحلاق الشاب أن يخفض صوت الموسيقى قليلاً. وضع الشاب الماكينة على رأس الحلاق العتيق وأقنعه أنّ رأسه لم يعد يحتاج إلى المقصّ. وسأله: أتريده على الواحد أو النصّ؟ فأجاب العجوز: "خفّفلي منيح قدّ ما فيك". وأخذت الماكينة تسير بسلاسة على رأسه. تدور حوله بنعومة فائقة. تجتزّ الشعيرات الباقية.

نظر الحلاق البسطاوي العتيق إلى الأرض حيث الشعر الأبيض الخفيف المتساقط منه. مرّ عليه شريط الأيّام. لم يكن الشعر وحده ما سقط أرضا. بل حاول الحلاق المسنّ أن يحجب دموعه حتّى لا ترافقها. فلم يستطع منعها. فقد "يبس ظهره".

 

دلالات
المساهمون