حكواتي: أتخيّلها..

06 ديسمبر 2014
في الباص مثلاً، أتخيّلها إلى جانبي (Getty)
+ الخط -
أتخيّلها أينما كنت، وأصدّق ذلك، حبّاً بها أو كرهاً بالوحدة. لا أعلم. في الباص مثلاً، أتخيّلها إلى جانبي، وأقوم بدفع أجرة راكبين، وأسخر من ابتسامة السائق الساخرة مني، معتقداً بأنها ابتسامة حسد لحبنا. أرفض أن تجلس امرأة عجوز بالقرب مني مدّعياً بأن المقعد لا يتّسع لثلاثة. يغضب السائق والركاب والعجوز محاولين إقناعي بأن لا أحد إلى جانبي، أنظر إليك ونضحك من ركاب باص المجانين هذا.

يقوم السائق بإجباري على النزول من الباص. أخاف أن أفقدك، فأركض خلفه متوسّلاً إليه ليوقف الباص ويقوم بإنزالك. أركض لساعات وأنت تحدّقين بي من النافذة... خائفة وكأنك مختطفة.

أحاول أن أطمئنك بأني لن أتوقف عن الركض... ولكن لا أنت تسمعين من خلف الزجاج ولا نَفَسي المتعب يساعدني على إكمال كلامي. أتوقف أخيراً وقد غاب الباص عن نظري، أجلس على مقعد الحديقة لكي أرتاح قليلاً، أطلب من فتاة إلى جانبي أن أشرب من زجاجة المياه التي في يدها، وما أن تمد يدها لتناولني الزجاجة، حتى أكتشف أنها أنت. أمسك بيدك، وبينما أقترب لأقبّلها، توقظني صفعة منها. أهرب قبل أن تدبّ النخوة في الشباب الذين تجمّعوا حولنا، وأعود إلى المنزل، لأفاجأ بك تنتظرين عودتي. وتبدأين الأسئلة: أين كنت؟ لم تأخرت؟ أنت لم تعد تحبني. أقصّ لك ما حدث، فلا تصدقين... وتنامين حزينة، وأسهر متأملاً نومك. أنام بجانبك مقنعاً نفسي بأن هذا السرير الصغير اتّسع لنا نحن الاثنين من شدة حبنا.

حتى في نومك تعرفين بما أفكر، فتبتسمين ساخرة من رومانسيتي... أستيقظ، فلا أجدك بجانبي، يصرخ قلبي مذعوراً: "ابحث عنها... لا تفقدها". أهدهده كطفل صغير، وأسمعه، صوتك تدندنين أغنية في المطبخ وأنت تعدّين فطورنا. أعود وأخرج بعدها بلا وجهة ما. أسير في الشوارع، أركب الباص مرة أخرى. أدخل السينما، المحلات، المشافي. أتأمّل البحر، غروب الشمس... في كل هذا تكونين برفقتي... أتخيّلك وأصدق ذلك لدرجة أني أخاف أن أفقدك... فأفقد نفسي.

شيءٌ مضحك

في أحد الأيام، بينما كنّا نختبئ في أحد الأقبية هرباً من القصف الصاروخي الذي كنّا نتعرّض له، وصلتني رسالة من أحد الأصدقاء يسأل عن سبب غيابي، ويطلب مني فيها أن أكتب شيئاً مضحكاً. فكتبت له: "صديقي العزيز.. الإنترنت عندنا أبطأ من سلحفاة حامل، والكهرباء تنقطع ثلاث ساعات وتعود ساعة واحدة. لكن محبتي لك جعلتني أفكر بشيء أكتبه، لكنني لم أجد شيئاً مضحكاً في حياتنا يا صديقي. لا أحد من عائلتي حولي، وأنا هنا وحيد تماماً في مدينة يتكلم أهلها لهجة لا أفهمها تجعلني أكثر وحدةً. تخيّل، اليوم دخلت إلى الدكان لأشتري شريطاً لاصقاً لأسلاك الكهرباء، نحن في حمص نسمّيه (لزّيق شرتطيون)، كان في الدكان أربعة أشخاص، دخلت وقلت للبائع: "بدي لزيق شرتطيون". انفجر الأربعة ضحكاً على الفور، لم أفهم السبب، حتى سألني البائع مرة أخرى: "شو بدّك"؟.. فأجبته: إنو لزّيق.. لزّيق شرتطيون.

ما إن نطقت كلمتي الأخيرة، حتى عادوا إلى ضحكهم. كنت أقف أمامهم كالمهرج. أما هم فكانت دموعهم تنهمر من شدة الضحك، خرجت مسرعاً من دون أن أشتري طلبي، كنت ما أزال أسمعهم وهم يردّدون: "شرتطيون"... ويضحكون.. "شرتطيون" ويضحكون، وصوت ضحكهم يختلط بسعالهم. كل ما تمنيته حينها أن يطلق القناص رصاصة في منتصف رأسي ليخلّصني من هذا الحرج. هل أخبرك أيضاً عمّا جرى لي البارحة في السوق عندما بدأ القصف، وكيف أن صاحب البسطة السمين حمل بسطته وبدأ بالركض. المسكين كان يركض والبضاعة تتساقط على الأرض وأنا أحملها وأركض خلفه. لم تكن البضاعة إلا ملابس داخلية، نعم يا صديقي كنت أحمل "كلاسين" بيدي وأركض. الجيد في الأمر أنّها كانت رجالية، فلو لم تكن كذلك ربما كانت جبهة النصرة علّقت مشنقتي بها. عمَّ أخبرك أيضاً يا صديقي، لا شيء مضحكاً في حياتنا، لا شيء مضحكاً سوى أنّ أحدهم يتحكّم في حياتنا كما يشاء. لا شيء مضحكاً سوى أنّنا نحاول طيلة الوقت أن نخفي دمعتنا، كي لا نشعره أنّه هزمنا.
المساهمون