حكواتي :أبو نبيل الفران

26 سبتمبر 2014
الحبّ المفقود (Getty)
+ الخط -
يكاد الحيّ الشعبي أن ينفجر بحكاياته ومفارقاته وبعض الطرائف المرويّة على ألسنة قاطنيه. لكلٍ روايته. أبو نبيل الفرّان، رجل في العقد السابع من عمره، رجل أنهكته النيران المتوهّجة أمام وجهه منذ فترة طويلة. فسُمرته الجاثمة على وجنتيه تجعل من وجهه رغيفاً مقمّراً. تعب الرجل السبعيني بما فيه الكفاية. أصبح لديه خبّاز يأخذ على عاتقه تحمُّل مسؤولية النار. أصبح للرجل بعض من الوقت ليروي تكراراً قصة ابنه الوحيد، الذي ذهب إلى فرنسا ليتعلّم بعد انتهاء المرحلة الثانوية في بيروت، ولم يعد حتّى الآن.
خمس عشرة سنة ونبيل في فرنسا. خمس سنوات ونبيل لم يرسل أيّة قصاصة ورق، لا بل لم يبادر إلى مكالمة أهله هاتفيّاً. كلّ ما يعرفه الفرّان أنّ نبيل "زمط" من الحرب الأهلية في لبنان، بينما أصبح جندياً مجهولاً في عداد المفقودين في فرنسا. لكنّ صورة نبيل في إطار الذكريات قبل السفر تشكّل كفاف يوم الفرّان. نبيل ذلك الشاب الذكي: "شاطر كتير" و"حربوق"، هذا ما يلوكه الفرّان على الدوام. يستوقف أبو نبيل كلّ زبائن الفرن ليحدّثهم عن ابنه. ذلك الشبح الذي يجول أوروبا. ذاك الظلّ الملازم له أينما توجّه. الكلّ يعرف قصة نبيل بالتفاصيل إلا أبوه. الكلّ يصطنع ابتسامة وطأطأة رأس لتحية صباحية يباغتون بها والد الابن الضال. خمسُ سنوات من الانقطاع وأبو نبيل يّحيك القصص عن متاهة ابنه. يفبرك له أخباراً ليجمعها في سيرة لطالما تمنّى معالمها. نبيل، الهارب من الحرب الى المجهول، أحبّ فتاةً فرنسيةً في المرحلة الجامعية، وبقي يواعدها أربع سنوات متتالية الى أن حدّدا موعداً للزواج. لقد تمّ تحديد اليوم الموعود من البلدية لإتمام مراسم الزواج. لكن قبل ثلاثة أيام من الموعد ظهرت المفاجأة من والد جوزفين، الذي رفض فكرة الارتباط برجل "عربي".
كانت حجّته الخوف من فرض الحجاب على ابنته بعد الزواج. وأن تصبح جوزفين رهينة تقاليد وقيم مختلفة. بيد أنّ نبيل كان يزايد على الفرنسيين بالنبل والتصرّف بحسب الأصول الغربية بشكل عام، وبالتقيد بالتفاصيل الأرستقراطية بشكل خاصّ. كان يأكل ويرتدي ملابسه وينمّق كلامه ويهذّب شاربيه، كفارس غابر من أيام لويس الخامس عشر. خمس عشرة سنة لم تكن كافية ليتعلّم نبيل أيّ شيء غير "الإتيكيت" الفرنسية. لقد أحبّ صديقته كثيراً كما فعلت هي. بدأت جوزفين خوض النقاش والمفاوضات عن خيار زواجها من نبيل. واجهت والدها بعنادها المعهود. رفضت عروضاً وإغراءات انهالت عليها. خيّرها والدها بين العائلة وممتلكاتها، وبين نبيل فاختارت "غريبها". وعدها بحياة ونمط عيش يعجز نبيل عن تأمينه فرفضت. لكنّ الوالد ما زال يملك ورقة ضغط أخيرة. إنّه الكلب "داركي". داركي في سنته السابعة، إنّه ونيس جوزفين. تاريخ علاقتهما أطول من حبّها لنبيل. يقف الوالد في الحديقة ويشدّ الكلب صوبه ويقول لها: "أنتِ حرّة تزوّجي... الكلب كلب البيت، كلب العائلة".
هذا قرار لم يكن في الحسبان. جوزفين تحبّ نبيل فارس مخيّلتها، ذلك الشهم المرهف. لكنّها اختارت داركي والبقاء في بيت العائلة. نبيل الفاقد لنكهته الخاصّة، والمهمل لشكله، محبطاً يلازم غرفته على الشاطئ. صار شاباً هزيلاً فاقد اللون يتأرجح على كرسيه الهزاز. يراقب الشمس والقمر والنجوم. يراقب تلاشي حوافزه. هذا ما يعرفه سكان الحيّ عن نبيل. هذا ما لا يعرفه الفرّان الحزين.
دلالات
المساهمون