حكايتي مع "الأونروا"
كلما سمعت، أو قرأت، خبراً عن أزمة مالية تواجهها وكالة هيئة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، "أونروا"، ينتابني خليط من المشاعر، والذكريات، الشخصية غالباً، والمثيرة، في الوقت نفسه، لمواجع إنسانية ووطنية عميقة.
كنت بالكاد قد بلغت الثانية عشرة، أو الثالثة عشرة من عمري، حين قررت والدتي، أطال الله عمرها، أن تكلفني، لأني الأكبر سناً بين إخوتي، بمهمة شاقة نفسياً، وجسدياً، هي استلام "المؤن"، وفق التسمية التي يستخدمها اللاجئون الفلسطينيون في الأردن، أو "الإعاشة"، في تعبير نظرائهم الذين لجأوا بعد النكبة عام 1948 إلى سورية ولبنان. وقد صرت، منذئذٍ، أستيقظ عند الفجر، مرة كل شهر، لأتوجه من بيتنا، في حي الجيل الأبيض، نحو موقع "أونروا"، في مخيم الزرقاء، وسط الأردن، لأصطفّ هناك مع مئات اللاجئين في طوابير طويلة، وعلى مدى ساعات كئيبة، حتى أحصل على نصيب العائلة من مساعدات غذائية، هي كيس طحين بوزن يقارب عشرين كيلوغراما، وغالون زيت، وعدة أرطال من الأرز والسكر، إضافة إلى بعض معلبات سمك السردين.
موظفو "أونروا" الذين كانوا يضطلعون بتوزيع هذه المساعدات، ومعظمهم من اللاجئين الفلسطينيين، المكتوين أيضاً بنار النكبة، كانوا يتّسمون، غالباً، بالغلظة والجلافة، في تعاملهم مع أبناء جلدتهم، وكان يندر أن يمر يوم من دون أن يتعارك أحدهم مع جمهرة الناس، بسبب "طول لسانه"، أو بسبب شكوكهم في أنه "لا يُقيم الوزن بالقسط، ويُخسر الميزان".
ما من شيء في حياتي، إبان تلك الحقبة، كان يثير شعوري بالأسى، قدر ما كانت تثيره ساعات انتظار "المؤن"، وما من لحنٍ كان يهزني، قدر ما كانت تفعل أغنية لإذاعة "صوت العاصفة، صوت فتح، الثورة الفلسطينية" يقول مطلعها:
"ولّعوا (أشعلوا) النار بالخيام، وارموا كروتة (بطاقات) التموين
لا صلح ولا استسلام، بسلاحنا نحرر فلسطين
لا نحن أحرقنا الخيام، طبعاً، ولا رمينا، آنذاك، بطاقات التموين، بل إن "أونروا" هي التي ظلّت تقلّص مساعداتها للاجئين الفلسطينيين، بحجة نقص الموارد، حتى صار ما تقدمه شحيحاً، ولا يستحق عناء الاصطفاف في الطوابير، فكان بذلك خلاصي من عبء استلام "المؤن"، قبل وقت قصير من مغادرتي بيت أسرتي، لألتحق بالجامعة، في منفى عربي آخر.
وإذ دارت الأيام دورتها، ستأتيني لحظة تأمل حزينة، كذلك، حين أعرف أن الشاعر الفلسطيني، محمد حسيب القاضي، الذي كتب "ولعوا النار بالخيام"، قد مات في المنفى، بصمت، منذ سنوات قليلة، عن عمر ناهز 75 عاماً، ومن دون أن يشهد، أو نشهد، نحن أبناء الجيل الذي تربى على قصائده المغناة، تحرير فلسطين، بسلاحنا، أو بأغصان الزيتون.
الأسوأ، في زمننا الجديد، أننا لم نعد وحدنا اللاجئين، وبات حاضر ملايين السوريين والعراقيين يماثل أمسنا القريب، إنْ من حيث سكنى الخيام، وسط صحاري الوحل العربي، أو من حيث انتظار المعونات الغذائية، مع فارقٍ قد يبدو بسيطاً، لكنه مريع، في كيديته، ومفاده أن الأمم المتحدة التي كانت قد أسست المفوضية العليا لشؤون اللاجئين عام 1949، بهدف توفير الحماية الدولية للاجئين في العالم، وإيجاد الحلول الدائمة لقضاياهم، قد استثنت الفلسطينيين من نطاق اختصاصها، وأوكلتهم إلى هيئة أنشأتها خصيصاً من أجلهم، تحت اسم وكالة الغوث "أونروا"، واقتصرت مهامها على تقديم المساعدات والخدمات الصحية والتعليمية.
لذا، ستجد بين اللاجئين العرب، اليوم، آلاف الفلسطينيين الذين لا يشملهم اختصاص المفوضية العليا، بعدما ألقت بهم الأحداث في مناطق لا تغطيها "أونروا"، مثل مصر، فصارت الخيمة وبطاقة الإعاشة، بالنسبة لبعضهم، على الأقل، هدفاً صعب المنال.
مع ذلك، لم يتبدّد الأمل، وما زال بين الفلسطينيين، مَن يغني: "بسلاحنا نحرر فلسطين"، وكذا مَن يموت على أرضها، فداءً لغرسة زيتون.