حكاية من "أبو غريب"

12 سبتمبر 2016
(سجن أبو غريب، تصوير: واثق الخزاعي / Getty)
+ الخط -
في الساعة السادسة مساءً، كانت الشمس قد بدأت بلملمة شُعاعها، واختصرته بهالة حمراء تلوح أمامنا في الأفق، حاول أصدقائي طوال الطريق دفعي للعدول عن قرار العودة، الوقت ما زال مبكرًا، ثمّة الكثير لنفعله، لكن الكابوس القائم أكثر رعبًا من مواجهته ليلًا.

وضعت يدي في جيبي بحثًا عن علبة السجائر، كانت في جيبي قبل خمسة أعوام. آخر سيجارة كاملة دخنتها في ساعات الفجر الأولى من يوم السبت، المصادف لـ14 مايو/أيّار 2011، أنهيت مكالمة هاتفية مع حبيبتي ونمت، أيقظتني أمي في السابعة صباحًا: الجيش يداهم الحي، ارتدِ ثيابك قبل أن يأتي دورنا. كان هذا الإجراء اعتياديًا جدًا، فلا يمرّ شهر دون مداهمة وتفتيش من قبل الجيش. فتحت لهم الباب وطلبوا مني أن أجلب هوية الأحوال المدنية وأرافقهم، لم يكن هنالك ما يخيف، كما ذكرت لقد اعتدنا ذلك، بعد خطوات قليلة التقيت بعدة أصدقاء من الحي، كان الجندي يسير أمامنا وكنا نسرف بالضحك والمزاح، لم أكن أعرف أنّي لن أضحك بعد هذا اليوم لمدّة طويلة.

وصلنا إلى قطعة أرض فارغة وكان هنالك الكثير من الشبّاب يجلسون على الأرض، جلست معهم، وكنت أشعر بالجوع، أوصيت أمي قبل مغادرتي أن تُحضر لي ولأصدقائي "مخلمة"، وهي عجّة لحم وطماطم اعتدنا تناولها على الإفطار، كان هاتفي في البيت أيضًا، لا أتوقّع البقاء هنا لوقت طويل، ثمّة جندي يحتضن حاسوبًا، يفحص به الأسماء في قاعدة البيانات بحثًا عن مطلوبين، بدأ القلق يتسرّب إلى قلبي بعد أن لاحظت عيون الجنود تتّجه نحوي بشكل غريب، توجّه نحوي أحد الجنود واقتادني بالقرب من تجمّعهم، جلست القرفصاء ووجهي إلى الحائط، ثم تقدّم نحوي ضابط وقال: "أي.. لزمناك".

ما زلت أظنّ أن في الأمر مزحةً، سألت الضابط إن كان قد عرفني، ثم أخبرته أني تناولت الغداء الأربعاء الماضي مع آمر اللواء المسؤول عن المنطقة، قاطعني: "الآمر ما يتغدا وية إرهابيين". سقطت كلمة "إرهابيين" على رأسي كفأس، أحسست أن حلقي قد جفّ تمامًا، ثم بلعت ريقي بصعوبة، واصل الضابط حديثه: أنت "....."، وذكر اسم منصب لشخصية بارزة في القاعدة. رغم معرفتي بلا جدوى قول أيّ شيء الآن لكني أخبرته أني لم أزر ديالى منذ سقوط بغداد، كما أنني موظف فكيف سأتولّى إدارة مجموعة مسلّحة و..، صرخ في وجهي آمرًا الجنود بوضعي في صندوق سيارة "همر".


الطريق إلى الزنزانة
في صندوق الـ"همر"، كنت أسمع الجنود يشتمونني لأنني أخّرت غداءهم، ساروا بي من الساعة السابعة وخمس وأربعين دقيقة حتى الحادية عشرة، الوقت الذي وصلنا فيه إلى مقر السرّية. أخرجوني من الصندوق ووضعوني في المقعد الخلفي بعد أن عصبوا عينيَّ بقماشة سوداء، وأخذوني إلى مقرّ اللّواء، حيث تم أخذ إفادتي الأوليّة، كما يسمونها، وهي مجموعة من الأسئلة العامة، تتضمّن اسمي وأسماء أفراد عائلتي وما يتعلّق بذلك، وكان أسلوبهم مع المطيعين أمثالي جيّدًا، ثم وضوعني مجددًا في سيارة من نوع "كيا" مفكوك اليدين والعينين، واقتادوني نحو السجن.

كانت الزنزانات غرفًا طولها متر ونصف المتر وعرضها ثلاثة أمتار، كنّا خمسة أشخاص، بقي ثلاثة منا حتى يوم الخميس، ثم قاموا بترحيلهم إلى الجهات التي طالبت بهم، بعد ورود أسمائهم ضمن "المطلوبين"، أو صدور مذكرة اعتقال في حقّهم، ويمرّ هذا الإجراء بنقلهم إلى "سجن التسفيرات"، فأصبحنا اثنين في الزنزانة، أنا وأحد منتسبي الشرطة. في هذا السجن كان التدخين ممنوعًا، والمقابلات ممنوعة، والطلبات ممنوعة، ليس لدينا سوى الاستماع إلى السباب والشتم، وتنظيف الممرّات والأرضية كواجب يومي.


سجون سريّة
بعد عدة أيّام، جاء رجل شدّ أيدينا أنا والشرطي برباط جزمة، وعصب عيوننا بقوّة، واقتادنا إلى غرفة شبه مهجورة، فكرنا باحتمالين فقط، إما أننا سنتعرض للاغتصاب، أو سيتم إعدامنا هنا. لم يكن في ذهني شيء سوى أمي، حاولت تذكر شيء جميل، لكن الذاكرة تخون في وقت مثل هذا.. لم تسعفني أبدًا. بقينا على هذه الحال بضع ساعات، ثم سمعنا صوت مشاجرة بين الرجل الذي اقتادنا ورجل آخر، قام الرجل الجديد والذي عرفنا لاحقًا أنه جندي، بطرد الرجل الأوّل، وظننت حينها، إنها خدعة لمنحنا لحظة سلام قبل تنفيذ حكم الإعدام، لكن الجندي فكّ وثاقنا وأحضر لنا غداءً وماء. ثم اصطحبنا إلى غرفة أخرى بقينا فيها لمدة ثلاث ساعات، كان التلفاز مشتغلا وشاهدنا فيلما عن "هتلر" برفقة الجندي الطيّب، عرفنا لاحقا أن لجنة تابعة لحقوق الإنسان تقوم بزيارة تفقديّة للسجن، وأننا سجينان سريّان من غير المحبذ أن يعرف أحد بتواجدنا.


طريقة العقرب
بقيت في هذا السجن أحد عشر يومًا قبل تحويلي للسجن الرئيسي، وعليَّ القول إن هذه الأيّام كانت بمثابة فترة استجمام في منتجع "زيلامسي" النمساوي بالمقارنة مع السجن الجديد. الزنزانة في السجن الرئيسي غرفة مغلقة تمامًا، فيها نافذة صغيرة على الباب، ونافذة صغيرة مرتفعة في دورة المياه، لا يُسمح لنا بالنظر عبرها لأنها تطل على الشارع. عندما وصلت قابلت رجلًا أعرفه من سكان بغداد، وكان على يديه حزّتان سألته عنهما قال بسبب "العقرب"، والعقرب حسب تعريفه لي، طريقة لربط اليدين بوثاق بلاستيكي، تتعامد فيها الكفان واحدة فوق الأخرى، مع كل حركة تضيق أكثر، تبدأ بقضم اللحم، ثم بعد ساعتين، يصل الجرح إلى العصب فيصبح الألم هائلًا، ما يدفع بالمعتقل إلى الاعتراف بأيّ شيء، وهذا ما حدث مع أحد المعتقلين، اعترف بجريمة لم يرتكبها، لكن سخرية القدر أنقذته، إذ ذكر في اعترافه سلاحًا مختلفًا عن السلاح الذي تمّت به الجريمة. لكن هذا ليس أسوأ شيء، لأن الشخص المعتقَل حين تُشد يديه بهذه الطريقة، يكون جالسًا في ممرّ أمام غرفة التحقيقات، وطوال مدة جلوسه يتعرّض للضرب من قبل الجنود المارّين، بمعدل ضربتين في الدقيقة، هذا الانتظار في الممرّ كان أسوأ من ألم "العقرب" نفسه.

خلال شهرين قضيتهما في هذا السجن، تخلّلتهما محاولتا انتحار وعدة حالات فقدان للوعي وانهيارات عصبية، نعم، أنا الشاب الذي كان يعيش قبل أقل من شهرين حياة سعيدة في بيته، حاولت الانتحار مرّتين، على أيّ حال، مرّ عدد من المعتقلين، لبث الواحد منهم ليلة أو ليلتين ثم سُفِّر، كم هو مثير للشفقة أن أتذكّر اليوم الذي منحني فيه أحد الجنود قليلا من "البقلاوة" و"زنود الست"، كانت السعادة المرافقة لتناول هذه الحلوى في ذلك الوقت أشبه بسعادة التجوال في باريس التي أحلم بزيارتها. بعد شهرين تم تسفيري بواسطة سيارة شرطة إلى محافظة شمالية، هناك حصلت على فرصة تدخين سيجارة، وبعد عدة أنفاس لم أستسغها، وصلنا إلى مقرّ قيادة عمليات المحافظة.


زيارة أولى
وصلت إلى سجني الجديد شاحبًا بلحية كثّة، لا أستطيع المشي باستقامة، ولا الحديث بطلاقة من قلّة الحركة والكلام، بسبب بقائي مدّة طويلة بعيدًا عن أشعّة الشمس والتواصل مع السجناء، كنت أشبه برجل الكهوف. ظننت في الليلة الأولى أني نُقلت إلى الجنّة، كان كل شيء يبدو أفضل من سجني السابق. بينما كانت هذه مجرّد أفكار تسرح في رأسي. وثقوا يديّ خلف ظهري، وعصّبوا عيني واقتادوني إلى أحد الممرّات، تذكّرت الممرّ الأول، لكن هذه المرة لم يضربني أحد. بدأ التحقيق معي حين نادى الضابط أحد الجنود طالبًا منه "فحصي"، ظننت أن هذه المفردة إشارة انطلاق "مهرجان الضرب والإهانات" كما المعتاد، لكن بعد دقيقتين أخبر الجندي الضابط أنه لا أثر لاسمي في قاعدة البيانات، الأمر الذي أثار غضب الضابط، تقدّم الضابط نحوي، فكّ وثاقي، وطلب مني أن أخبره بقصتي كاملة بعد أن أعطاني كأس عصير وبسكويت. في اليوم التالي، سمحوا لي بحلق لحيتي، وبعدها بأسبوع سمحوا لي بالاتصال بأهلي، وبعد ذلك بثلاثة أيّام حصلت على زيارتي الأولى.. أمي.

طوال الفترة الماضية لم أكن أفكر بغيرها، انتابتني تخيّلات رهيبة، بعضها يتعلّق بالحالة الاقتصادية لعائلتي الآن، وكانت الأحلام تبقيني متماسكًا، فأرى نفسي بالبيت، وكل شيء بخير، فتهبط على روحي الطمأنينة، لكن أمي أتت، كيف يمكن وصف أم ترى ابنها الوحيد بعد فقده؟ لا أعرف، كنا أنا وهي، طوال الزيارة، نبكي فقط، نبكي ولا نقول شيئًا، وأحيانًا كنت ألملم نفسي لأسألها عن أحوالهم المعيشية، وكانت دائما ما تطمئنني بجوابها.. ازدادت حالات انهياراتي العصبية وفقداني للوعي في تلك الفترة، وكانت طبيبة الخفر جميلة بشكل لا يصدّق، ما يجعل مبيتي في المستشفى مكافأة ثمينة.


سماسرة الحرّية
أخبرني المعتقلون في هذا السجن الكثير من الأشياء، كقصّة "القوزي"، الذي هو عبارة عن برميلين بعضهما إلى جانب بعض يفصل بينهما لوحان خشبيان، يعلق بهما السجين من عند أبطيه، وتربط كلتا يديه بقدميه ويترك معلّقًا، يقول المعتقل الذي يروي لي القصة، بعد مرور دقائق تبدأ بفقدان الشعور بيديك، وحين تنتهي مدّة تعليقك وترجع إلى الزنزانة، تبقى عشرة أيّام فاقدًا القدرة على تحريك يديك. أستاذ كيمياء تم اعتقاله بعد أن وجد الجيش تراكيب لذرّات كاربون على جهازه، واتهموه بتصنيع مادة الـ"سي فور"، وآخر اعتقل لأن بيته كان قريبًا من انفجار استهدف الجيش، وآخر كان سبب اعتقاله وقوع بيته في الزاوية نفسها التي تم تصوير أحد العمليات ضد الجيش منها، كان هناك من اعتقل لأسباب غير متعلقة بالإرهاب، مثل ذلك الشاب المتّهم بقتل والد حبيبته، لأنه تقدم لخطبتها قبل عام من الحادثة ورفضه الوالد، المؤسف في قصّة هذا الشاب أنه لم يعتقل وحده، بل اعتقل مع صديقه المقرّب، ربّما لاعتقادهم أنه كان شريكًّا في الجريمة، أغلب هؤلاء كانوا يعترفون بجريمة لم يرتكبوها، ما يزيد حالهم سوءًا، ويمنحون سماسرة السجن فرصة لرفع الأسعار، إذ كان هناك سماسرة يبيعون الحريّات للمعتقلين، غالبيتهم من قادة الصحوات ومخاتير القرى والنواحي، وعشيقات الضباط. بعد سماعي قصصًا مثل هذه، كنت أشعر بالرضا والراحة، حالي أفضل من حالهم بكثير. بقيت في هذا السجن ثمانين يومًا، ثم أطلق سراحي بعد 152 يومًا من الاعتقال.

لم أستطع النوم في الليلة الأولى بعد خروجي، غفوت لدقائق فجرًا، ثم فتحت عيني، كانت أمي تجلس قرب قدمي، قالت: "لا تنام.. أريد أشبع منك". أوّد أن أقول لكل مسؤول عن الاعتقالات، دعوات أمهات الأبرياء بإمكانها هدم الجبال، فانتبه جيّدًا. كما أوّد ذكر الجنود الذين كانوا يحسنون معاملتنا، مثل الذين منحونا الشاي في أوقات المنع أو دون خلطه بالكافور وفقًا للأوامر، لأن الكافور مثبط جنسي، كان أحدهم يقول: اشربوا الشاي، عسّى أن يتحرّك فيكم شيء. وجندي آخر علم بميولاتي الفنية، كان يشغل لي أغاني فيروز كلّما وجد الفرصة لذلك، صدري منقبض تمامًا الآن، وأشعر برغبة شديدة في التقيؤ، هذه الذكريات مؤلمة، مؤلمة جدًا.

المساهمون