"مِيها باردة" (ماء بارد)، "بَرّْدْ أعَطْشان" (اشرب الماء يا عطشان)، عبارات مشهورة استخدمها بائع الماء المغربي محمد، لجذب المارّة والسياح، أملًا في جني دراهم معدودات.
"سي محمد" يمتهن منذ ثلاثة عقود، بيع الماء أو "الكرَاب" كما يطلق عليها في المغرب، ويحاول الحفاظ على هذه من الاندثار. يقول الرجل الخمسيني لـ"الأناضول" إنه ورث الحرفة في عمر العشرين عن والده، ومستمر بها منذ 30 عامًا.
يُظهر محمد شعوراً بالرضا وهو يشرح ظروفه الصحية الصعبة التي حرمته استكمال دراسته، فشاءت الأقدار أن يعمل بمهنة أبيه وجدِّه. ويضيف: "أنا أُعيل طفلين، وبيع الماء مصدر رزقي".
بلباسه الأنيق وجرسه الرنان، يتجول محمد الذي ينحدر من مدينة "طاطا" (جنوب)، حاملا وعاء ماء مصنوعاً من جلد الماعز يقول إنه يحافظ على برودة الماء. وطقطقة الكؤوس النحاسية التي يصب فيها الماء، تجذب زبائن السوق، وتُثير رغبة الشرب لدى المُرْتَوِي منهم قبل العطشان، هكذا يقول محمد.
ويواصل بائع الماء تجوّله بين أزقة السوق، مرتديًا "دَراعة" (قميصاً) وسروالا أحمريْن. وينتعل حذاءً أصفر اللون، وتعتلي رأسه "التّرازة" (قبعة) وعلى خصره محفظة نقود تُمسى "الشكّارة"، في لوحة ترسم تراث المغرب.
مشهد محمد، متكامل اللون والصوت والصورة، ينجح على الدوام في جذب السائحين والمارّة، ويدعوه إلى وقفة تأمل في أصالة الثقافة المغربية. ويتعمد أصحاب المهن الشعبية التقليدية في المغرب لبس أزياء تُظهر تراث البلد، في وسيلة لجذب الزبائن والسياح، للمحافظة على الموروث الثقافي بإحياء هذه المهن.
دراهم الصيف والشتاء
عند بيع الماء، لا يشترط "سي محمد" مبلغًا محددًا، ويقول إنه يقبل بـ"دريهمات قد تصل في أحسن الأحوال إلى 150 درهما (15 دولاراً) يوميًا".
في فصل الشتاء يستغني الناس عن "الكراب" (اسم بائع الماء بالمغرب)، فمع انخفاض درجة الحرارة تقل حاجتهم للشرب، ما يؤثر على دخل محمد الذي يلجأ إلى ما ادخره من دراهم خلال موسم الصيف.
وعن سرّ ارتباطه بالمهنة يقول إنه يطمع في "نيل الثواب والأجر من خلال خدمة الناس وتوفير الماء لهم في وقت اشتداد الحر".
وعند سؤاله عن سن تقاعد "الكراب"، أبدى محمد تشبثه بالمهنة، وقال: "لا شيء يبعدني عنها (..) أبنائي صغار السن ولا معيل لهم. كيف لي تركها ولا أجيد غيرها؟!".
مقاومة الاندثار
محمد اليوم واحد من بين ثلاثة بائعين حريصين على بقاء المهنة، بعد أن غيّب الموت أشهر سقاة العاصمة.
وعلى الرغم من تعلّقه بالمهنة، إلا أنه لم يخفِ رفضه نقلها لأولاده، فـ"المهنة متعبة جدا، حرارة الشمس والوقوف ساعات طوال حاملا القربة يجعلني أرفض التفكير في توريث الحرفة لأبنائي". ويأمل بائع الماء المشهور بأن يتابع أولاده دراستهم حتى الجامعة، ليحصّلوا دخلًا جيدًا من وظيفة جيدة.
ومع تطور المجتمع المغربي واختلاف نمط عيشه، تراجع حضور مهنة "الكراب"، لا سيما مع استبدال الكؤوس التقليدية بزجاجات ماء بلاستيكية. لكن بعض السقاة أصرّوا على التشبث بها، كونها جزءاً من تراث المغرب.
ومهنة "الكراب" تعدّ من رموز الثقافة التي تسوق للسياحة المغربية، فصورة الكراب حاضرة في ذهن السائح الأجنبي إلى جانب معالم المغرب الشهيرة، كجامع الفنا والكسكس والطاجين المغربي (أكلات مغربية).
(الأناضول)