حكاية طويلة
تفصلنا عن الحل السياسي في سورية جملة ظروف مفتوحة على صراعات ما بعد سورية، قد لا يقل بعضها ضراوة عن الصراعات التي عشناها خلال الثورة. وتكمن معضلتنا اليوم في أن روسيا ليست قادرة على إيجاد حل للصراع بمفردها، بعد أن تورّطت فيه من موقع الشراكة مع أطرافٍ ترى اليوم أنها كانت منافسة لها، قبل وبعد الغزو الذي نفذته في سورية عام 2015 وبعده. وتكمن في أن واشنطن، الممسكة بمعظم أوراق الحل، لم تقرّر استخدام ما لديها من وسائل ضرورية لفرض حلٍّ يقبله طرفا الصراع، بعد أن تركت لهما هوامش تسمح لأحدهما بقبولٍ لا تعقبه نتيجة، وللآخر برفضٍ لا ينهي الصراع، ولا يحقق انتصارا. ويكمن أخيرا في أن المعارضة، أو ما اصطلح على تسميته ممثل الثورة، عاجزة عن القيام بأي شيء، على الرغم مما قد تبادر إليه من حركاتٍ تعتقد أنها ردها على العجز، مع أنها لن تلبث أن تعزّزه.
وقد أمعنت في فصلنا عن الحل، أخيرا، تطوراتٌ تعاكس ما كان منتظرا بعد انتهاء الأعمال العسكرية الذي يتكرّس، ويتعايش المتصارعون معه. تعبّر هذه التطورات عن نفسها في انتقال هؤلاء إلى انتزاع ما يعتقدون أنه حصتهم من سورية وما وراءها، بدل انتظار الحل الذي يمكّنهم من الحصول عليها، الأمر الذي يجعل من المستبعد العودة إلى الحرب من جهة، والذهاب إلى الحل من جهة مقابلة، ويضعنا أمام معادلةٍ تتعاظم فيها حصة من يبادر إلى انتزاع غنيمته بالقوة، كما تفعل تركيا منذ أشهر، من خلال هجمةٍ ذات طابع استراتيجي طاولت سورية، حيث رسمت خطوطا حمراء لروسيا وإيران، عبر قوة ساحقة حشدتها فيها، وطاولت العراق، حيث شرعت تحتل مواقع كان يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني، قد تستأنف بعد ترسيخ وضعها فيها هجومها على المنطقة السورية التي يسيطر عليها أتباع الحزب، ويرجّح أن يفضي انتزاعها منه إلى إحباط خطته لأخذ حصته من سورية من دون انتظار الحل، كما طاولت ليبيا، حيث أقامت أنقرة قاعدةً قتاليةً تعزّز دورها في شمال أفريقيا، وعلى إمداد حوض المتوسط الشرقي، بثرواته الكبيرة من النفط والغاز.
بهذه الهجمة التي تنتزع تركيا من خلالها بالقوة بعض ما كانت تعتزم نيله من خلال الحل، يكون من الصعب أن تسمح بإخراجها من سورية من جهة، وأن تعتبر دورَها في المسألة الكردية السورية منتهيا، وتسمح بتخلق ظروف تهدّد "إنجازاتها" التي يبدو كأن تحقيقها لا يتعارَض بالضرورة مع إعادة اقتسام المنطقة، ونيل القوى الأخرى حصتها، حسب قوتها وقدرتها على المبادرة، وهي لا تتصل بأنقرة، النسبة لروسيا، بل بطهران، شريكها اللدود في إنقاذ من تكتشف موسكو أنه يرفض إقامة علاقات متوازنة بينها وبين طهران، مع أن علاقاتٍ كهذه تعتبر هزيمة بالنسبة لها، تُلزمها بالتخلي عن مخططها الأصلي الذي قام على الانفراد بسورية، واستخدامها لاستعادة ما كان للسوفيات فيه من حضورٍ ونفوذٍ في الوطن العربي. بما أن استخدام القوة بين روسيا وإيران مستبعد، ومستبعد أيضا حسم صراعهما بالقوة، فإن تنافسهما سيطيل أمد الصراع في سورية وعليها، وسيؤدّي بالتالي إلى إرجاء الحل، والإبقاء على الوضع الراهن، وضع لا حرب ولا سلم، بما يضمره من تجاذباتٍ تحسّن كل منهما أوضاعها بواسطتها، من دون أن يؤدّي ذلك إلى تبدّل جدّي في واقعهما القائم حاليا، ما لم يحدث زلزالٌ يقوّضه ويُرغمهما على إعادة النظر في علاقاتهما لصالح أحدهما، أو يطيح إيران، ويسمح لموسكو بالإنفراد بالأسدية، من خلال جهد أميركي تبدو واشنطن عازفةً عن القيام به، لأنها تريد لروسيا أن تخدمها في طهران، بدل أن تخدم هي موسكو في سورية. أما واشنطن، فإنها لا تريد تغيير أوضاع تحتجز إرادات غريميها، وتبقي أوراقهما في يدها.