حكايات وحكواتي: هنا حيفا 5 يونيو 1967

04 يونيو 2014
من حرب الأيّام الستّة (Getty)
+ الخط -
1 –

 كنت وما زلت أحبّ المشي حافية، وكان هذا واحداً من أسباب توبيخ أمي المستمرّ لي.

ما أذكره بوضوح شديد من يوم 5 يونيو/حزيران العام 1967 هو أنّني غافلت أمي وذهبت حافية إلى بقالة جارنا اليهودي البولندي "بيرلالي" لأشتري نصف حبّة "بوظة ع ثلج" بطعم الليمون. وكان ثمنها قرشاً قديماً فضيّ اللون أعطتني إيّاه جدّتي لأضعه في صينية الكنيسة يوم الأحد. لكنّني احتفظت به سرّاً.

اشتريت نصف حبّة البوظة ورحت ألحسها بمتعة ما بعدها متعة وأنطنط على رصيف الشارع الساخن كي لا تكتوي كفّا رجليّ. فجأة سمعت صوتاً غريباً ما كنت سمعت مثله سابقاً. صوت صفارة إنذار يعلو ويهبط. لم أخف إنّما استدعى الصوت فضولي، خصوصاً أنّني رأيت الناس يتراكضون من حولي. حتّى أن أحدهم دفعني بعنف لأنّني اعترضت طريقه، وأوقع "نصّ حبّة البوظه" من يدي. فما كان مني إلا أن وقفت في وسط أشخاص يتصايحون ويجرون بهلع ورعب حولي وأنا ابكي لأنّني حُرِمتُ من التمتع بالبوظة ولا أعرف متى سأحصل على قرش آخر لشراء مثلها.

وبينما كنتُ مستغرقة في البكاء وإذ بأمي تركض نحوي صائحة: "الدنيا قايمة قاعدة وإنتِ بالشارع وليش بتبكي وبتجوحي.. يلا قدّامي ع البيت". بالطبع أمي كانت تسأل وما كانت تنتظر الإجابة. جرّتني من يدي وعندها انتبهت إلى عدم انتعالي حذائي. توقّفت وبدأت بوعظة أخرى، أنقذني منها أبي الذي أطلّ من شبّاك الدار منادياً أمي: "يلا تعالوا ع البيت بسرعة بدأت الحرب".

 

2 –

 

كل ما أذكره من الحرب فرحتنا في بدايتها ونحن نسمع صوت العرب يعلنون وصول القوات العربية إلى مشارف تل ابيب. وما زاد من يقين الكبار بصدق الأخبار أنّ أفراد الدفاع المدني الإسرائيلي في مدينة حيفا بدأوا يجوبون كلّ مساء حارات المدينة منبّهين الناس إلى ضرورة عدم إضاءة البيوت خوفاً من أن تكتشفنا طيّارات الجيوش العربية وتقصف حيفا.

كطفلة، ما كنت كتير فاهمة شو اللي عم يصير، لكن كنت فرحانة بفرح الكبار، خصوصاً جدّتي التي عادت لها هيبتها عندما صارت مصدراً للإرشادات الأمنية البيتية لأنها عاصرت حروباً سابقة. فمثلاً كي تخفّف من سطوع ضوء القنديل كانت تطلب منّا ورقة تقصّها بشكل دائري وتغطي بها زجاجة القنديل من فوق فلا ينتشر ضوءه كثيراً.

 

 

3 -  

في إحدى جولات قوات الأمن الداخلي في حارتنا اكتشفوا أنّ شقتنا هي المكان الأفضل لجميع سكان العمارة لتكون بمثابة ملجإٍ آمن من قصف الطائرات العربية (مع العلم أنّ حرب 67 كانت أوّل الحروب الرسمية بين الدول العربية واسرائيل ولم تكن هناك أيّ ملاجئ عامة). وهذا أجبر سكان الشقق الأخرى في عمارتنا على النزول إلى شقتنا في كلّ مرّة زمّرت صفارة الإنذار. علماً أيضاً أنّ جميع جيراننا كان يهوداً من روسيا وبولندا وما كانوا قد دخلوا بيتنا سابقاً. ما جعل الوضع متوتراً جداً وغير مريح لنا، وبالتأكيد غير مريح لهم. لكنّ للظروف أحكاماً تجعل الذئب والنعجة يسكنان معاً ولو بنحو مؤقت.

 

4 –

في اليوم الثالث للحرب عرف الجميع أنّنا خسرناها وبدأت تصلنا أخبار عن احتلال القدس العربية واحتلال الضفّة وغزّة، ولاحقاً احتلال الجولان وسيناء. والذي أثار اهتمامي عند انتهاء الحرب بعد 6 أيّام أنّه رغم  حزن البالغين إلا أنّهم فرحوا لأنّ الضفة "فتحت" وصار في إمكانهم التواصل مع أهلهم هناك ممن تهجروا إلى مخيمات اللجوء في الضفة الغربية وغزّة. بالإضافة إلى إمكانية شراء جميع المنتوجات الكهربائية بدون ضريبة إضافية، ما يعني توفير 15 % من سعرها. "فدشعوا" أهل البلد إلى مدن الضفّة وعادوا محمّلين بالأدوات الكهربائية. إلا والدي الذي عاد برزمة كبيرة من الكتب العربية والمترجمة من مكتبة المحتسب في شارع صلاح الدين بالقدس. هو الذي كان محروماً منها طوال سنوات. ما أثار غضب أمي التي كانت تأمل تغيير ماكينة الخياطة اليدوية القديمة من ماركة "سنجر" بأخرى أكثر تقدّماً تشتغل من خلال تحريك القدم... وبالطبع لم تقنع أمي والدي بأنّ راحتها أفضل من الكتب رغم أنّها قرأتها كلّها لاحقاً.

 

5 –

 لسبب غير معروف حتى الآن أعطت قوات الاحتلال جميعَ سكَان المناطق المحتلة إمكانية زيارة جميع أنحاء الوطن، فهرع كثيرون إلى زيارة بيوتهم التي كانوا قد أُجبروا على مغادرتها في نكبة العام 1948.

كنّا نسكن شقة استأجرها والدي (المهجّر من قريته: قيساريا) من شركة "عميدار" الإسرائيلية، التي أسّستها الحكومة الإسرائيلية فور استيلائها على منازل اللاجئين. ووطّنت هذه الشركة اليهود الآتين من أوروبا بداية. ثم لاحقاً أجّرت جزءاً من بيوتها إلى اللاجئين الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم.

بعد الحرب بشهر دقّت باب البيت الذي استأجرناه من الشركة الإسرائيلية سيّدة فلسطينية وابنها، جاءا لرؤية منزلهما. وشقّتنا كانت جزءاً من بيتهما المكوّن من طبقتين، لم تتهنّ العائلة به إلا سنة واحدة، قبل أن يجبرهما الاحتلال الإسرائيلي على النزوح إلى رام الله.

لم أفهم كثيراً ما حصل من حديث بين السيّدة وأمي. لكن بقي بكاؤهما المشترك، على ما حصل في حرب 48 ولاحقاً في حرب 67، يوجع قلبي حتّى أيّامنا هذه.

المساهمون