حكايات لبنانية في مذكرات موشيه أرنس

29 اغسطس 2018
خصّص أرنس أكثر من فصل لاجتياح لبنان (أريك بوفيه/Getty)
+ الخط -

ينتمي موشيه أرنس، وزير الأمن الإسرائيلي الأسبق، وسفير إسرائيل السابق لدى الولايات المتحدة، ووزير الخارجية الأسبق، إلى جيل الساسة اليمينيين، من أوائل خريجي حركة الشبيبة "بيتار" للحركة التنقيحية التي قادها زئيف جابوتنسكي، والتي تؤمن بأن ضفتي نهر الأردن، أي "أرض إسرائيل الكاملة"، من حق اليهود وحدهم، وأنه لا يمكن لهم تأسيس الدولة والإبقاء عليها إلا بقوة السلاح ومن خلال بناء جدار معنوي من القوة العسكرية القادرة على ردع الدول والجيران العرب من التعرض للدولة اليهودية.

ولا يعترف أرنس بوجود شعب فلسطيني، ولا بحق تقرير المصير، بل إنه عارض اتفاق كامب ديفيد مع مصر، ورفض تنازل مناحيم بيغن عن كامل سيناء، واستقال من منصب وزير الأمن حتى لا يكون الوزير المسؤول عن الانسحاب من سيناء وإخلاء مستوطنة "يميت". ومع أن أرنس دخل السياسة الحزبية الإسرائيلية عضواً في الكنيست منذ عام 1973، إلا أن نجمه لمع بالذات بعد تعيينه للمرة الأولى سفيراً لتل أبيب في الولايات المتحدة، قبل فترة قصيرة فقط من الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، وشغل منصب السفير حتى 1983، ثم استدعاه بيغن لتولّي منصب وزير الأمن بعد إقالة آرئيل شارون من المنصب، بسبب مسؤوليته عن مذبحة صبرا وشاتيلا. ومن 1982 ولغاية 1984، كان أرنس عاملاً مؤثراً فيما يحدث في لبنان، وقبل ذلك في رفع مستوى العلاقة والتعاون الاستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة، بما في ذلك نصح الحكومة الإسرائيلية، بقيادة إسحاق شامير، بعد الانتفاضة الأولى، بقبول خطة رونالد ريغان للسلام، انطلاقاً من قناعته بأن الجانب العربي، وتحديداً منظمة التحرير، سيرفض الخطة، لكن شامير، الذي كان أشدّ تعصباً من أرنس، رفض الخطة ولم يأبه بمسوّغات قبولها ولو للأغراض الإعلامية.

وقد أصدر موشيه أرنس، أخيراً، كتاب مذكرات أو سيرة ذاتية تحت عنوان "من أجل أمن إسرائيل"، استعرض فيه بداية دوره في بناء الصناعات العسكرية الإسرائيلية، ودوره في محاولات تطوير طائرة مقاتلة تحت مسمّى "لافي"، توازي اليوم المقاتلة الأميركية "إف 22". وخصّص أرنس، بطبيعة الحال، أكثر من فصل لفترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان وتداعيات الغزو التي تواصلت بعد ذلك لسنوات. ويستهلّ أرنس حديثه عن الغزو الإسرائيلي للبنان بزيارة وزير الأمن آرئيل شارون للبيت الأبيض في أواخر مايو/ أيار 1982، عندما كان أرنس سفيراً لإسرائيل في الولايات المتحدة. ويورد أرنس أن شارون عرض أمام وزير الخارجية الأميركي الأسبق، ألكسندر هيغ، خرائط مفصلة تبيّن انتشار قوات منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. ويقول أرنس إنه بعد هذا اللقاء، وبعد الغزو الإسرائيلي للبنان، هناك من قال إن شارون حصل من هيغ على ضوء أخضر لشن الحرب، لكن أستطيع القول بكل تأكيد إن ذلك لم يحدث على الإطلاق، بل إن هيغ أبلغ شارون معارضة الولايات المتحدة لكل عملية عسكرية تشنّها إسرائيل ضد لبنان (صفحة 89). وقد يكون نفي أرنس لوجود مثل هذه الموافقة نابع بالأساس من تأييده لاحقاً لمواقف بيغن وخصوم شارون في القيادة الإسرائيلية، الذين حاولوا التلويح برواية أن شارون خدع بيغن وخدع الحكومة الإسرائيلية بكل ما يتعلّق بالخطط الحربية للغزو.

محاولات التحالف مع "أمل"

يستعرض أرنس في مذكراته تطوّرات مختلفة في الغزو الإسرائيلي للبنان. وعلى الرغم من أنه لا يقدّم مفاجآت كبيرة أو حادة، فإنه يدلي بتفاصيل وحكايات مثيرة على أقل تقدير، مثل ادعائه في الصفحة 98 أن "طرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان لم يكن الهدف المعلن للاجتياح الذي يطلق عليه إسرائيلياً اسم حملة سلامة الجليل، ولكن تمت بلورة العمليات الحربية بهذا الاتجاه مع استمرار القتال، وظهور ثمار محتملة لإمكانية الطرد بدأت تتضح أكثر. لم يكن هناك شك في أن هذا الأمر يتوافق مع أفضل مصالح إسرائيل ولبنان على حد سواء" (صفحة 98).



غلاف كتاب "من أجل أمن إسرائيل" (العربي الجديد)



ولعل من المفيد هنا التذكير أن أرنس ممن حملوا ولا يزالون عقيدة التحالف مع لبنان، وفق مبدأ حلف الأقليات ومناصرة اليمين المسيحي في لبنان أيضاً في مواجهة سورية، وليس فقط الفلسطينيين وقوات منظمة التحرير. وكان قد اعتبر، في تصريحات سابقة، أنه ربما كان يُفضّل لو أن إسرائيل أقامت حلفاً مع الطائفة الشيعية في لبنان. وفي هذا السياق يورد أرنس تفاصيل لقاء سري بينه وبين قائد قوات حركة أمل في الجنوب، محمد غدار، سعى أرنس خلاله لوضع أسس لتعاون عسكري وسياسي بين إسرائيل وحركة أمل في لبنان بعد الانسحاب الإسرائيلي. ويقول أرنس، في الصفحة 121، "قررت القيام بمحاولة أخيرة لإخراج قواتنا من كل أراضي لبنان، من خلال الاتصال مع زعيم حركة أمل في الجنوب، المليشيات الشيعية في جنوب لبنان. كانت غالبية سكان جنوب لبنان من الشيعة، وقد عانوا كثيراً في السنوات التي نشطت فيها منظمة التحرير بشكل حرّ في جنوب لبنان، وقد استقبل السكان بحرارة جنود الجيش الإسرائيلي عندما وصلوا إلى هناك، وهزموا قوات منظمة التحرير".

وأضاف أرنس "لقد أخطأت إسرائيل عندما تجاهلت سكان جنوب لبنان، وركزت جهدها وحصرته في بناء العلاقة مع المسيحيين في الدولة. الآن كانت حركة أمل قد ارتبطت بالقوى المعارضة لحكومة لبنان، واعتبرت الجيش الإسرائيلي قوة محتلة. عيّنت أوري لوبراني، سفيرنا في طهران (قبل الثورة الإسلامية)، لمعالجة القضايا السياسية المتعلقة بلبنان. وقد رصد لوبراني محمد غدار الذي عاش في قرية الغازية قرب صيدا، باعتباره قائد مليشيات أمل في الجنوب، ونجح في تنسيق وتحديد موعد للقاء بيني وبينه. حطّت المروحية العسكرية التي حملتنا في مكان قريب ورافقتنا قوة حراسة من الجيش حتى باب بيته. أخرج غدار الأولاد من الغرفة ونقلهم إلى غرفة مجاورة وجلسنا للحديث". وتابع "درس غدار لسنوات عديدة في الولايات المتحدة في جامعة A&MTexas وتحدث الإنكليزية بطلاقة، ولم تكن هناك حاجة لوجود مترجم للحديث بيننا. قلت له: انظر، نحن معنيون بإخلاء جنوب لبنان وإعادة جنودنا للبيت؟ لنا طلب واحد فقط، وهو أنه بعد أن ننسحب من المكان لا تخرج عمليات إرهابية ضد مستوطنات الشمال في إسرائيل. نحن مستعدون لمساعدتكم، لتدريب وتسليح قواتكم وجعلكم أقوى مليشيا في لبنان. هل يمكن أن نبرم صفقة معكم؟ أصغى إليّ إصغاء تامّاً، وقال بعد لحظات إنه لا يستطيع إبرام صفقة كهذه. لم يقتنع بأي شيء مما قلته له. عاد وكرر القول: لا يمكنني فعل ذلك. إذا لم تنفع الجزرة، فكرت بيني وبين نفسي، فقد يفيد التلويح بالعصا، فهددته قائلاً: إذا لم نصل إلى اتفاق سنبقى هنا ونقاتلكم، أنت تعرف أن الجيش الإسرائيلي أقوى من مليشياتكم وسوف تخسرون. فردّ علي قائلاً: أعرف ذلك، لكنك تنسى أمراً واحداً، نحن الشيعة نحبّ المعاناة. تصافحنا ثم خرجت من بيته، وأنا أقول في نفسي، يبدو أننا سنبقى في لبنان لفترة طويلة".

أحضروا له عمته من لبنان

لكن في مقابل التلويح بالعصا في وجه قائد حركة أمل في الجنوب، يذكر أرنس قصة "لبنانية أخرى" ترتبط بالغزو للبنان. عندما كان أرنس لا يزال سفيراً في الولايات المتحدة، وأثناء زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، مناحيم بيغن، للولايات المتحدة، ولقائه مع ريغان، ومن ثم في 22 يونيو/ حزيران مع مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي ممن لم يقتنعوا بأقوال بيغن وشروحه لأسباب شن الحرب، انزلق النقاش أيضاً ليطاول موضوع الاستيطان الإسرائيلي وراء "خطوط وقف إطلاق النار والهدنة لعام 1949"، فأرنس لا يعترف بمصطلح الخط الأخضر. ويقول أرنس، في الصفحتين 93 و94، "أحد الذين تحدوا بيغن، كان جيمس عبد النور، وهو سيناتور جمهوري من جنوب داكوتا من أصل لبناني. وقد قال موجهاً كلامه لبيغن: سيدي رئيس الحكومة، لي عمة مسنة في لبنان لم نسمع عنها منذ غزوكم للبنان، وأنا خائف على حياتها. لم يكن لدى بيغن ما يردّ به على السيناتور، لكنني توجهت إليه بعد اللقاء ووقفت معه جانباً لأحصل على بيانات عمته وقلت له إننا سنحاول العثور عليها. كان اسمها جوريا (أو ربما جورية) عبد النور من قرية عين عرب (في قضاء راشيا). وطلبت من رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) الجنرال يهوشواع ساغي، الذي رافق بيغن في الزيارة، نقل تفاصيلها للبلاد وطلب محاولة تعقب آثارها. واتضح أن القرية تقع في البقاع اللبناني، قرب خط القتال بين الجيش الإسرائيلي والقوات السورية، وهو ليس خاضعاً مؤقتاً (في المرحلة الأولى من الاجتياح) تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، ومع ذلك تم إيفاد قوة كوماندوس خاصة للقرية، والعثور على السيدة المسنة وجلبها إلى إسرائيل. لاحقاً أبلغتني ابنتي الصغيرة روتي، التي خدمت خلال الحرب في المنطقة الحدودية، أنها شاهدت السيدة المسنة، وهي تحمل سلة مملوءة بالكرز، وأن هذه السيدة في طريقها إلى الولايات المتحدة. كانت هذه جورية عبد النور التي وصلت بعد أيام إلى مكتب السيناتور عبد النور. وقد فرح السيناتور طبعاً برؤية عمته سالمة، لكن يبدو أنه لم يعرف ماذا يفعل معها؟ أفترض أنه بعد فترة من الزمن كانت في طريق عودتها إلى لبنان".

المساهمون