حقائق لا أوهام

23 نوفمبر 2016

الدولة العميقة تسعى إلى حصار بنكيران (25/9/2016/الأناضول)

+ الخط -
الحديث في السياسة مثل الكلام في الجغرافيا، لا بد من وضع خريطة أمام الجميع، ليصبح للكلام معنى، وللرأي مستند، وللتحليل أعمدة يرتكز عليها... ماذا يوجد على خارطة المشهد السياسي المغربي اليوم من حقائق ومتغيرات. لنعرض بعض هذه التضاريس بسرعة، ونترك تركيبها لذكاء القارئ.
لأول مرة في المغرب، يعجز رئيس حكومة معين من الملك محمد السادس، وحائز على شرعية سياسية قوية من صناديق الاقتراع، عن العثور على أغلبية بين أحزاب فقدت تماما أي استقلال في القرار، وهي تحاول الانقلاب على صناديق الاقتراع، بزعم أنها لا تريد أن تشارك في الحكومة مع زعيم حزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، الذي فاز بالمرتبة الأولى في اقتراع السابع من أكتوبر/ تشرين الثاني.
لأول مرة في تاريخ المغرب، يحصل حزب سياسي (العدالة والتنمية) على حوالي ثلث مقاعد مجلس النواب، وعلى مليوني صوت في اقتراعٍ شبه مفتوح، وفي نظام انتخابي معقد، يعاقب الأحزاب الكبيرة، ويتعمد بلقنة الخريطة السياسية، حتى تظل الأحزاب ضعيفة أمام القصر.
لأول مرة في تاريخ المغرب، تضع الدولة إطارا مسبقا لنتائج الاقتراع، وتكلف وزارة الداخلية بالوقوف على هذا المخطط وتطبيقه في الواقع بكل الوسائل المتاحة. ومع ذلك، تخرج نتائج صندوق الاقتراع متناقضةً تماماً مع مخططات الدولة العميقة، ويفوز الحزب (غير المرحب به) حزب العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى في ثاني انتخابات بعد الربيع العربي.
لأول مرة، تصنع الدولة العميقة حزبها (الأصالة والمعاصرة)، وتستثمر فيه الغالي والنفيس ثماني سنوات، وعندما تحتاجه لا تجده، بل أكثر من هذا، يصير هذا الحزب عبئاً عليها، لا تعرف كيف تتخلص منه.
لأول مرة في تاريخ المغرب، يخرج رئيس حكومة ليرسم (للسلطوية) صورةً واضحةً أمام الرأي العام، ويتحدّث مع المواطنين عن وجود دولتين في المغرب، وعن ازدواجية القرار في المملكة، ويصارحهم بلغةٍ غير خشبية عن أعطاب نظامهم السياسي، وعن وصفة الإصلاح الحقيقي في ظل الاستقرار الحقيقي.
لأول مرة في المغرب، صار لحوالي عشرة ملايين مغربي مكبّر صوت، من خلال حسابات في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، يتواصل من خلالها الأفراد، ويعبرون عن آرائهم في كل شيء، وينشئون لأنفسهم هويات جديدة خارج العائلة والقبيلة والتقاليد. هؤلاء ليسوا شعباً افتراضياً، بل هم مواطنون واقعيون، يخرجون بين حين وآخر من حواسيبهم إلى الشارع، ويؤثرون في القرار السياسي. وفي عام 2011، استطاعوا أن يغيروا الدستور وتركيبة الحكم، وهو الأمر الذي عجزت عنه الأحزاب الكبيرة والنقابات العريقة.
لأول مرة، صار سكان المدن في المغرب أكبر من سكان القرى، وأصبح قاطنو المدن يمثلون ثلثي ساكنة المملكة، ولم يبق في البوادي إلا الثلث. ولهذا، يمكن القول إن أطروحة الباحث الفرنسي، ريمي لوفو "إن البادية تشكل خزان السلطوية الكبير في المغرب" ذابت أو تكاد، فقد أصبحت للمدن الكلمة الأولى في السياسة، ومعها ظهر التصويت السياسي الصريح يوم الاقتراع.
لأول مرة في المغرب، يخرج مئات الآلاف من المواطنين للتظاهر في الشارع، لأسباب "غير خبزية"، رأينا ذلك، أخيراً، في التظاهرات التي اجتاحت 20 مدينة في المغرب، عقب وفاة بائع السمك، محسن فكري، في الحسيمة. ورأينا ذلك بوضوح صباح 20 فبراير/ شباط 2011، عندما هبت (الجماهير) في 54 مدينة، تنادي بالملكية البرلمانية والإصلاحات الدستورية... في كل هذه المناسبات، كان المواطنون المغاربة يستعملون سلاح الاحتجاج، لأسباب سياسية وأخلاقية.
هذه قائمة قصيرة من التحولات التي يعرفها المغرب، يمكن الاختلاف في تأويل دلالاتها ومعانيها ونتائجها. لكن، لا يمكن الاختلاف بشأن وجودها. وأملي أن يضع مهندسو السياسية في بلدي هذه القائمة أمامهم، وهم يخططون لتدبير أزمة تشكيل الحكومة الحالية، وألا يسقطوا في أعراض مرض نكران الواقع المعروف في التحليل النفسي، كمرض اسمه déni de réalité، وهو يمنع صاحبه من رؤية الواقع كما هو. والواقع اليوم أن مجمل التحولات السياسية والاجتماعية تضيّق الخناق على السلطوية التي لم تعد قادرةً على الإفلات من ساعة الحقيقة الديمقراطية. قد تقاوم، قد تناور، لكنها في الأخير ستستسلم.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.