حفل تنكري للتنصيب

15 يونيو 2014
+ الخط -
تابع الجميع المراسم الطويلة والمملة والمنهكة، لاعلان الحدث المشكك فيه داخليا وخارجيا بصعود قائد القوات المسلحة في مصر، والذي نزع البدلة العسكرية إلى "رئاسة مصر".
الحفل كان تنكريا، والجميع لم يكد يتعرف على زاعم صفة الرئيس، وهو نازع النياشين العسكرية. وكان لا بد من تكثيف الفعاليات، وتركيز النشاطات وتنويع الصور والأضواء والموسيقى والأناشيد والكراسي الفرعونية والرايات العالية، حتى يتسنى قذف الواقع الجديد في وجدان ومخيال الشعب المنهك من غلاء المعيشة، وارتفاع الضرائب وأزمة النقل والمشكل الأمني وتصاعد مشكلات التلوث، وتزايد نسبة الفقر إلى حدود عليا.

الحفل التنكري أريد له أن يكون بإخراج امبراطوري، والسجادات الحمراء كانت متعددة وممتدة، والتشكيلات العسكرية كانت طويلة، والمباني كانت شاهقة، وقاعات الاحتفال كانت فسيحة مليئة بالنياشين، والهدف لم يكن خافياً، لأنه كان من الصعب بعد سلسلة التضليل الفاشلة منذ 30 يونيو/حزيران 2013، وبعد نسبة المشاركة الضعيفة، حتى باعتماد الضغوط والتهديد والعقوبات المالية، في الانتخابات، إقناع غالبية الشعب بوجود رئيس شرعي، وكان لا بد من اللجوء من جديد إلى تقنيات المسرح والأفلام، لكسب ما يمكن حتى يكون سندا للأيام الصعاب التي ينتظرها البلد، وهو المتجه نحو الإفلاس.

الدولة العميقة، بقيادة الجيش والقضاء والإعلام والمؤسسة الدينية، كانت حاضرة بقوة، والقوات المسلحة كانت جزءا كبيرا من المشهد، أما القضاء فكان الحاضر الأبرز عبر عدلي منصور، وكل تشكيلة المحكمة الدستورية العليا الذين صالوا وجالوا طويلاً لإسباغ نوع من الشرعية القضائية على صفة الرئاسة التي لم تركب، كما كان منتظراً، على المشير عبد الفتاح السيسي، أما المؤسسة الدينية، بشقيها الإسلامي والمسيحي، فكانت حاضرة بصورها الفلكلورية عبثا لإضفاء نوع من الشرعية الدينية للمشير.

المؤسسة الإعلامية التي نفذت الانقلاب، عبر كل شاشاتها الكبيرة، ورموزها 'اللامعين" قبل 30 يونيو/حزيران 2013، بأشهر، وفي ذلك اليوم، لما تم نشر أكبر كذبة في التاريخ بجعل بعض مئات آلاف المتظاهرين في مستوى رقم 30 مليون، والحال أن ميدان التحرير وكل الشوارع المتصلة به هندسيا لا يمكن أن يضم أكثر من 400 ألف شخص، في أحسن الحالات. هذا الإعلام الذي قاد الانقلاب والذي واصل الشحن والتأييد، ودعم وبرر سفك الدماء وقمع الحريات ولجم الألسن، ومارس كل أشكال البروباغندا لترشيح السيسي للرئاسة، هو اليوم في المقدمة للإشادة والإطراء والتمجيد والمديح.

الدولة العميقة كانت حاضرة بأركانها الاجنبية، وخصوصاً التي دعمت الإعلام وكل العملية الانقلابية بعشرات آلاف مليارات الدولارات. وكانت هذه أهم أطراف الدولة العميقة التي احتلت الأدوار الأولى في الحفل التنكري لقائد القوات المسلحة في شكل رئيس جمهورية مصر.

التراتبية كانت واضحة، والدول الافريقية التي لم تعترف بالانقلاب والانتخابات عبر منظمتها، حضر بعضها في مستويين، ثالث ورابع، أما البلدان الأوروبية والولايات المتحدة فكانت متحفظة، وتشترط وجود مسار واضح لاحترام حقوق الإنسان والحريات وتحقيق الامن، والموقف يبدو ضاغطا أساسا لضمان استمرار العلاقات المصرية-الصهيونية. قطر وتركيا غابتا بسب عدم الرغبة في حضورهما، أما إيران التي تم استدعاؤها رسميا، فقد كان رئيسها الغائب الكبير.

عدلي منصور بعد "تسليم الأمانة" إلى صاحبها الذي سطا عليها بقوة السلاح، ركز على رهان محاربة الإرهاب، في إشارة إلى استمرار القبضة الأمنية لسلطة جوفاء من كل شرعية شعبية. وحيا السيسي الذي وصف ما أسماه اختيار الشعب له على "وطنيته"، ورد السيسي بـ"أحسن من التحية"، شاكرا لعدلي منصور ما "حققه" لمصر، وهو يقصد ما حققه له من إنجاح عملية ما كان لها أن تنجح إلا عبر المحكمة الدستورية، وكان بحق عموداً أساسياً في العملية و"استحق" بذلك كل الشكر.

الشكر أيضاً لمساهمته في "اللحظة التاريخية" التي وصفها السيسي بانها لم تحدث في تاريخ الوطن، وهي عملية "التسليم-والتسلم"، واعتبرها "تقليداً غير معهود"، وهذه العملية الفلوكلورية هي، في الحقيقة، أبرز حلقات الحفل التنكري، لبث فكرة تسلم السلطة من "رئيس"، وصف بالشرعي، إلى "رئيس" وصف بـ"المنتخب"، بعد أن كان "المنقذ". وطبعا هذه الحلقة الرئيسية هي ما سيركز عليها كل الفيلق الإعلامي الفضائي والمسموع والمكتوب والإلكتروني، كحدث نوعي في تاريخ مصر لرئيسين، فعلاً أحدهما سلم ما لا يملك لمن لا يستحق. هذا إضافة إلى الحفل "الكبير" في قصر القبة.

حاول السيسي متلعثماً الحديث عبثاً عن "الأمن" و"العدل" و"المسار الثوري"، في مغالطة كبرى، فيما الأمن انخرم مدنياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، والعدل انهار بمئات المحاكمات الانتقامية التي وصلت إلى حد الإبادة الجماعية، عبر الإعدامات المقضي بها، والتي يستمر الحكم بها إلى حد هذا الأسبوع، والمسار الثوري الذي تم إجهاضه كلياً، بضرب كل أهدافه من حرية وكرامة وعدالة وحقوق سياسية واجتماعية واقتصادية، وتبييض كل رموز الفساد والأجرام في عهد حسني مبارك.

لا نبرر أخطاء "الإخوان المسلمين" ومحمد مرسي في الحكم، وعبر محطات ثورة 25 يناير، لكن المنزلق الخطير الذي وضع فيه السيسي مصر كلف البلد والشعب والثورة آلاف المرات الأضرار والمخاطر التي من أجلها ادعى السيسي "إنقاذ" البلد. الخطير اليوم هو دخول السلطة عبر بوابة "التسليم-والتسلم" إلى باب امبراطورية استبداديةٍ، لا نعلم كيف ستكرس الأمن بافتقاد الحريات والحقوق، وبغياب كامل للعدالة، وهي الشروط الأساسية للاستثمار والسياحة والتشغيل. المنطلق كان واضحا عبر إخراج إمبراطوري يحمل رمزية عميقة في اتجاه الحكم الدكتاتوري، مظاهر "الأبهة" و"القوة" و"الترف" و"هيبة الدولة"، لم تكن لتسوق إلا من أجل تبرير القبضة الأمنية القوية المنتظرة، والتي وضحتها الحراسة الأمنية المكثفة والشديدة للسيسي في المراسم.

 

 

 

BDD9CC42-D4D7-458B-BAF4-3A664E21B438
BDD9CC42-D4D7-458B-BAF4-3A664E21B438
شكري بن عيسى (تونس)
شكري بن عيسى (تونس)