04 أكتوبر 2024
حصة التزوير السنوي
حان الآن موعد الاحتفال الهستيري، وحصة تزوير التاريخ التي تتم كل عام. حان الآن الموعد السنوي المقدس للمبالغات ولتمجيد الفرعون. إنه الموعد الذي يتكرر كل عام منذ 63 عاما، الموعد السنوي لتقديس حركة 23 يوليو 1952. ولكن، دعنا هذا العام نحاول، ولو محاولة بسيطة، وسط الهوس، أن نبرز آراء تحاول أن تسير خارج قطيع الاحتفال الهستيري المقدس.
دعني، أولاً، أستخدم مصطلح الكفار والمهرطقين، وهو حركة 23 يوليو، بدلا من مصطلح ثورة 23 يوليو الذي ليس له أي أساس واقعي، أو أكاديمي، عند المهرطقين، وكذلك أيضا بدلا من مصطلح انقلاب 23 يوليو، والذي يستفز الناصريين، على الرغم من صحة التوصيف أكاديميا، لكن مصطلح حركة يوليو، أو حركة الضباط، هو الأخفّ والأوسط، وهو أيضا الذي أطلقه ضباط يوليو على حركتهم، قبل أن يطلقوا عليها ثورة.
لم تعد حركة 23 يوليو 1952 مقدسة، كما كانت طوال السنوات الماضية، وعلى الرغم من أن جيلنا درس في المدارس، وشاهد وسمع في الإذاعة والتلفزيون، أن حركة الضباط الأحرار هي الحقيقة المطلقة في الكون، وأنها أفضل شيء حدث في تاريخ مصر والعرب والعالم، وأن "يوليو" هي الكرامة والوطنية والحرية والعدالة الاجتماعية والقومية العربية وتحدِّي الاستعمار.
ولكن، هناك أيضاً روايات أخرى، بعضها من داخل معسكر يوليو، مثل شهادات الضباط الأحرار المغضوب عليهم، بعد مطالبتهم بالعودة إلى الثكنات، وتطبيق الديمقراطية، أو شهادة أول رئيس للجمهورية تم الانقلاب عليه، أو شهادات من عاصروا تلك الفترة. فهناك كتب وكتابات عديدة وروايات تزداد كل يوم، والتي تحمل وجهة النظر الأخرى. وهناك من يرى أن عصر ما قبل 1952 لم يكن بهذا السوء الذي صوّروه لنا، وكان يمكن للضباط الأحرار إصلاح النظام وتحويله لملكية دستورية ونظام برلماني، بدلاً من الانقلاب وإلغاء الملكية. وهناك كتابات ودراسات عديدة تتحدث عن فترة ما قبل 1952، وهي الفترة الليبرالية، حيث كانت ثقافة التسامح واحترام الاختلاف الثقافة السائدة، فقد كان هناك دستور رائع، وانتخابات حرة، وأحزاب حقيقية، ومجتمع مدني قوي. صحيح أنه كان هناك فساد وطبقية واحتلال. ولكن، كان الأفضل البناء على ما كان موجوداً، بدلاً من هدم كل شيء، وبناء نظام عسكري شمولي دكتاتوري، أضاع مصر وأضاع العرب، وأخّر المنطقة كلها عقودا.
عندما كنتُ طفلا ساذجاً، أصدِّق ما أدرسه في المدرسة، وما أشاهده في التلفزيون، كنت أعتقد أن جمال عبد الناصر أحد الأنبياء، ومنقذ العرب، وأنه لا نهضة ولا وحدة للأمة العربية إلا بظهوره من جديد. ومع الوقت، ومع القراءة والاستماع لمختلف وجهات النظر، بدأت أتساءل عن أسباب هزيمة 1967، وأسباب الإصرار على عبد الحكيم عامر، على الرغم من أنه كان السبب في انفصال سورية وفي ضعف الجيش المصري، إنه المسؤول الرئيسي عن هزيمة 1967، وعن ضياع سيناء والقدس والضفة الغربية وغزة والجولان.
أعرف أن الفترة الليبرالية في العهد الملكي كانت فيها مساوئ عديدة. ولكن، أليس قتْل الحياة السياسية وإلغاء الأحزاب كان كارثة نعاني منها حتى الآن؟ ألم يزح الضباط الأحرار فاروق الفاسد اللاهي، ليتحولوا إلى عشرات الفواريق الأكثر فساداً ولهواً؟
ربما كانت نيات الضباط الأحرار طيبة عند القيام بحركة 23 يوليو، ربما كانت نيات عبد الناصر طيبة ووطنية فعلاً، قبل أن يتسبب في كوارث قاد الأمة العربية إليها. ولكن، منذ متى يتم تقييم الأشياء بناءً على النيات؟
ربما كانت أهداف حركة يوليو القضاء على الاستعمار والإقطاع والفساد، وإقامة حياة ديموقراطية سليمة. ولكن، ما حدث منذ بداية الحكم العسكري المستمر منذ 63 عاماً هو انتقال الإقطاع من الحاشية الملكية إلى الحاشية العسكرية، واستمرار الفساد الذي تم الحفاظ عليه، وانتقل بعد 23 يوليو من القصر الملكي إلى القصر الرئاسي وأعضاء الاتحاد الاشتراكي ومراكز القوى، وتحوّل مطلب إقامة حياة ديمقراطية سليمة، التي نادى بها ضباط 23 يوليو إلى إقامة مزيد من المعتقلات، ومراقبة الناس بعضهم بعضا، وتحول مطالب العدالة الاجتماعية إلى إعدام العمال المطالبين بتحسين أوضاعهم، مثل عمال كفر الدوار، ثم قمْع فكرة النقابات العمالية واعتبارها مؤامرات خارجية، كما قال عبد الناصر صراحةً في الستينيات، عندما فكر في إلغاء النقابات والاكتفاء بالاتحاد الاشتراكي.
تحولت أحلام الوحدة العربية والقومية إلى مشروع لتمجيد شخص، يعتبر نفسه زعيم العرب، ثم إلى تدخلات في شؤون باقي الدول العربية، وترتيب انقلابات في دول عربية، تحت شعارات برّاقة، مثل القومية العربية ومقاومة الاستعمار، وما المجرمون والسفاحون والمخابيل، أمثال صدام حسين ومعمر القذافي وجعفر النميري وعلي عبد الله صالح وغيرهم، إلا نماذج لأشخاص قرروا استكمال التجربة الناصرية، والسير على طريق العنجهية والخطب الرنانة والمجد الشخصي.
أحياناً، أتخيّل وأسأل ماذا لو ... نجحت مطالبات الديمقراطية في عام 1954، وعاد العسكر إلى الثكنات، أو لم يتم حل الأحزاب، أو لم نتورّط في حرب اليمن، أو تم الاهتمام بالفعل وبناء جيش قوي وليس الخطب الرنانة؟ ماذا لو كان قد تم إجراء تحقيقات حقيقية ومحاسبة كل من تسبب في هزيمة يونيو/حزيران 1967؟ ماذا لو كان القائم على السلطة بعد 23 يوليو قد قرر نشْر قيم التسامح والتعايش وتقبل الآخر، بدلاً من سياسة الصوت الواحد، وقمع كل من يعترض أو يفكر؟
وأخيراً، ليست هناك تجربة شيطانية 100% ولا ملائكية 100%، وعلى الرغم من كمّ الكوارث التي ارتكبها نظام يوليو، فإن هناك إنجازات عديدة حدثت قبل أن تأكلها الإخفاقات، لكن السؤال الأهم الآن في الحاضر، لماذا يصرّ عبد الفتاح السيسي على الأخْذ بأسْوأ ما في تجارب عبد الناصر أو أنور السادات أو حسني مبارك أو محمد مرسي؟
دعني، أولاً، أستخدم مصطلح الكفار والمهرطقين، وهو حركة 23 يوليو، بدلا من مصطلح ثورة 23 يوليو الذي ليس له أي أساس واقعي، أو أكاديمي، عند المهرطقين، وكذلك أيضا بدلا من مصطلح انقلاب 23 يوليو، والذي يستفز الناصريين، على الرغم من صحة التوصيف أكاديميا، لكن مصطلح حركة يوليو، أو حركة الضباط، هو الأخفّ والأوسط، وهو أيضا الذي أطلقه ضباط يوليو على حركتهم، قبل أن يطلقوا عليها ثورة.
لم تعد حركة 23 يوليو 1952 مقدسة، كما كانت طوال السنوات الماضية، وعلى الرغم من أن جيلنا درس في المدارس، وشاهد وسمع في الإذاعة والتلفزيون، أن حركة الضباط الأحرار هي الحقيقة المطلقة في الكون، وأنها أفضل شيء حدث في تاريخ مصر والعرب والعالم، وأن "يوليو" هي الكرامة والوطنية والحرية والعدالة الاجتماعية والقومية العربية وتحدِّي الاستعمار.
ولكن، هناك أيضاً روايات أخرى، بعضها من داخل معسكر يوليو، مثل شهادات الضباط الأحرار المغضوب عليهم، بعد مطالبتهم بالعودة إلى الثكنات، وتطبيق الديمقراطية، أو شهادة أول رئيس للجمهورية تم الانقلاب عليه، أو شهادات من عاصروا تلك الفترة. فهناك كتب وكتابات عديدة وروايات تزداد كل يوم، والتي تحمل وجهة النظر الأخرى. وهناك من يرى أن عصر ما قبل 1952 لم يكن بهذا السوء الذي صوّروه لنا، وكان يمكن للضباط الأحرار إصلاح النظام وتحويله لملكية دستورية ونظام برلماني، بدلاً من الانقلاب وإلغاء الملكية. وهناك كتابات ودراسات عديدة تتحدث عن فترة ما قبل 1952، وهي الفترة الليبرالية، حيث كانت ثقافة التسامح واحترام الاختلاف الثقافة السائدة، فقد كان هناك دستور رائع، وانتخابات حرة، وأحزاب حقيقية، ومجتمع مدني قوي. صحيح أنه كان هناك فساد وطبقية واحتلال. ولكن، كان الأفضل البناء على ما كان موجوداً، بدلاً من هدم كل شيء، وبناء نظام عسكري شمولي دكتاتوري، أضاع مصر وأضاع العرب، وأخّر المنطقة كلها عقودا.
عندما كنتُ طفلا ساذجاً، أصدِّق ما أدرسه في المدرسة، وما أشاهده في التلفزيون، كنت أعتقد أن جمال عبد الناصر أحد الأنبياء، ومنقذ العرب، وأنه لا نهضة ولا وحدة للأمة العربية إلا بظهوره من جديد. ومع الوقت، ومع القراءة والاستماع لمختلف وجهات النظر، بدأت أتساءل عن أسباب هزيمة 1967، وأسباب الإصرار على عبد الحكيم عامر، على الرغم من أنه كان السبب في انفصال سورية وفي ضعف الجيش المصري، إنه المسؤول الرئيسي عن هزيمة 1967، وعن ضياع سيناء والقدس والضفة الغربية وغزة والجولان.
أعرف أن الفترة الليبرالية في العهد الملكي كانت فيها مساوئ عديدة. ولكن، أليس قتْل الحياة السياسية وإلغاء الأحزاب كان كارثة نعاني منها حتى الآن؟ ألم يزح الضباط الأحرار فاروق الفاسد اللاهي، ليتحولوا إلى عشرات الفواريق الأكثر فساداً ولهواً؟
ربما كانت نيات الضباط الأحرار طيبة عند القيام بحركة 23 يوليو، ربما كانت نيات عبد الناصر طيبة ووطنية فعلاً، قبل أن يتسبب في كوارث قاد الأمة العربية إليها. ولكن، منذ متى يتم تقييم الأشياء بناءً على النيات؟
ربما كانت أهداف حركة يوليو القضاء على الاستعمار والإقطاع والفساد، وإقامة حياة ديموقراطية سليمة. ولكن، ما حدث منذ بداية الحكم العسكري المستمر منذ 63 عاماً هو انتقال الإقطاع من الحاشية الملكية إلى الحاشية العسكرية، واستمرار الفساد الذي تم الحفاظ عليه، وانتقل بعد 23 يوليو من القصر الملكي إلى القصر الرئاسي وأعضاء الاتحاد الاشتراكي ومراكز القوى، وتحوّل مطلب إقامة حياة ديمقراطية سليمة، التي نادى بها ضباط 23 يوليو إلى إقامة مزيد من المعتقلات، ومراقبة الناس بعضهم بعضا، وتحول مطالب العدالة الاجتماعية إلى إعدام العمال المطالبين بتحسين أوضاعهم، مثل عمال كفر الدوار، ثم قمْع فكرة النقابات العمالية واعتبارها مؤامرات خارجية، كما قال عبد الناصر صراحةً في الستينيات، عندما فكر في إلغاء النقابات والاكتفاء بالاتحاد الاشتراكي.
تحولت أحلام الوحدة العربية والقومية إلى مشروع لتمجيد شخص، يعتبر نفسه زعيم العرب، ثم إلى تدخلات في شؤون باقي الدول العربية، وترتيب انقلابات في دول عربية، تحت شعارات برّاقة، مثل القومية العربية ومقاومة الاستعمار، وما المجرمون والسفاحون والمخابيل، أمثال صدام حسين ومعمر القذافي وجعفر النميري وعلي عبد الله صالح وغيرهم، إلا نماذج لأشخاص قرروا استكمال التجربة الناصرية، والسير على طريق العنجهية والخطب الرنانة والمجد الشخصي.
أحياناً، أتخيّل وأسأل ماذا لو ... نجحت مطالبات الديمقراطية في عام 1954، وعاد العسكر إلى الثكنات، أو لم يتم حل الأحزاب، أو لم نتورّط في حرب اليمن، أو تم الاهتمام بالفعل وبناء جيش قوي وليس الخطب الرنانة؟ ماذا لو كان قد تم إجراء تحقيقات حقيقية ومحاسبة كل من تسبب في هزيمة يونيو/حزيران 1967؟ ماذا لو كان القائم على السلطة بعد 23 يوليو قد قرر نشْر قيم التسامح والتعايش وتقبل الآخر، بدلاً من سياسة الصوت الواحد، وقمع كل من يعترض أو يفكر؟
وأخيراً، ليست هناك تجربة شيطانية 100% ولا ملائكية 100%، وعلى الرغم من كمّ الكوارث التي ارتكبها نظام يوليو، فإن هناك إنجازات عديدة حدثت قبل أن تأكلها الإخفاقات، لكن السؤال الأهم الآن في الحاضر، لماذا يصرّ عبد الفتاح السيسي على الأخْذ بأسْوأ ما في تجارب عبد الناصر أو أنور السادات أو حسني مبارك أو محمد مرسي؟