حصان طروادة "الداعشي"

12 يونيو 2015
+ الخط -
كُتِبَ الكثير، وقيل أكثر، في تحليل ظاهرة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، سواء لناحية تقصي مزاعم وجود مؤامرة غربية-صهيونية-إيرانية-عربية ديكتاتورية وراء خلق التنظيم، أم لناحية فحص حيثيات المنظومة الفكرية والفقهية التي لا يُنْكَرُ وجودها تاريخيا، وقد تكون ساهمت في صياغة منهج "داعش" ومسلكيته. وهنا، لا أريد أن أسقط في تتبع أصل ظاهرة "داعش" ومنطلقاتها، فهذا أمر يذهب أبعد من هدف هذا المقال، ولكن، قد يكفي القول، الآن، إن الظاهرة الخطيرة التي تجسدها "داعش" لا يمكن قراءة أبعادها منعزلة ومفككة عن بعضها بعضاً. فاستبعاد احتمال وجود أصابع خارجية تعبث عبر توجيه واستغلال غير مباشر لضحالة القائمين على التنظيم لن يكون حكيما. كما أن إنكار وجود تيار فقهي تاريخي يسمح ببروز ظواهر، مثل "داعش"، فيه خداع للذات، ولن يحل مشكلة. والتغاضي عن حقيقة أن "داعش" وشبيهاتها تمثل، إلى حد كبير، إفرازا لواقع عربي آسن ومخز وكارثي، لن يعجل بانهيارها وهزيمتها. 

إذن، "داعش"، شئنا أم أبينا، ظاهرة مركبة، وهي نتاج معطيات موضوعية وذاتية، خارجية وداخلية، فكرية وواقعية، غير أن أخطر ما في أمر "داعش" هو الدور التخريبي الذي تلعبه في أي مكان نما لها رأس فيه. وبهذا المعنى، أصبحت عبئا على أي حراك شعبي مسالم، وعلى أية ثورة مسلحة عادلة، بل وعبئا، كذلك، على غايتي الاستقلال والسيادة. فـ"داعش"، من حيث أرادت أم لم ترد، هي "حصان طروادة"، ينفذ منه الطاغية أو الاستعمار، في حلته الجديدة، إلى قلب وأحشاء منطقتنا وأمتنا، على أمل إجهاض أي مشروع تحرري نهضوي.
كان الحراك الشعبي السني في العراق، أواخر عام 2012، والذي جاء رداً على سنوات من السياسات الطائفية المقيتة لحكومة رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، في أوجه، وكان النفوذ الإيراني، حينها، يواجه تحدياً كبيراً هناك، إلى أن خرجت "داعش" في ظلمة ليل، منتصف العام الماضي، لتحتل الموصل ومساحات شاسعة من العراق. صحيح أن المالكي سقط، غير أن الأمر لم يقتصر على تعزيز الوضع الإيراني في العراق، بل وتم استدعاء التدخل الأميركي المباشر، مجدداً. وسواء أنها المفارقة، كما يعتقد بعضهم، أم المؤامرة، كما يعتقد آخرون، فإن أميركا وإيران حليفان، واقعياً وعملياً، في العراق اليوم، بل إن مليشيات "الحشد الشعبي" الطائفية الشيعية تتقدم صوب المناطق السنية، بقيادات عسكرية إيرانية، وبغطاء جوي أميركي.

لم تكن الثورة السورية، أيضا، بعيدة عن قائمة ضحايا "داعش"، فمنذ دخلت الأخيرة إلى سورية عام 2012، استهلكت جُلَّ وقتها في محاربة فصائل المعارضة السورية، بل وحتى شقيقها الفكري والتنظيمي، جبهة النصرة. المفارقة هنا أن أغلب المناطق التي سيطرت عليها "داعش" في سورية، إنما انتزعتها من فصائل المعارضة السورية وجبهة النصرة، كما في الرقة ودير الزور العام الماضي.. إلخ. الاستثناء الوحيد هو مدينة تدمر التي احتلتها من قوات النظام الشهر الماضي. وفي أبريل/نيسان الماضي، نقلت "داعش" معركتها إلى مخيم اليرموك مع تنظيم "أكناف بيت المقدس" الذي يدافع عن المخيم أمام قوات النظام ومليشياته، وها هي اليوم تنقل معركتها ضد الثورة السورية وفصائلها إلى القلمون، حيث تتصدى تلك الفصائل لمقاتلي النظام و"حزب الله". وفي كل الأحوال، نجحت "داعش" في استدعاء تدخل غربي عسكري في سورية، ولكن، ليس ضد النظام، وإنما لاستنزاف الثورة، فأميركا تريد أن تدرب وتسلح فصائل في "المعارضة المعتدلة"، لتحارب "داعش" لا نظام بشار الأسد.
تحركات "داعش" المريبة، والرؤوس الغامضة الكثيرة التي تنبت لها، لا تنحصر في الشام والعراق. فدورها التخريبي وصل إلى ليبيا، والجرائم التي تنسب إليها هناك، كما في "لغز" إعدام الأقباط المصريين في فبراير/شباط الماضي، كانت بمثابة "حصان طروادة" آخر. ولكن، هذه المرة، لنظام السيسي في مصر، للتدخل في ليبيا، لدعم قوات اللواء المنشق، خليفة حفتر، رمز الثورة المضادة. والمفارقة هنا أن "داعش" لا تظهر إلا في المناطق التي هي تحت سيطرة الثوار الليبيين، لا في المناطق التي هي تحت سيطرة الثورة المضادة. ومن ذلك إعلانها، قبل أيام، سيطرتها على مدينة سرت وتهديدها مصراتة، وإعلانها الحرب على قوات "مرتدي فجر ليبيا" التابعة للمؤتمر الوطني العام، وليس على "مرتدي عملية كرامة ليبيا"، التابعة لمجلس نواب طبرق المنحل.
يقال الأمر نفسه عن بروز رأس آخر لها في أفغانستان، وإعلانها الحرب، لا على الأميركيين، والنظام الأفغاني المرتبط بهم، بل على "طالبان" نفسها التي تحارب الأميركيين، التي يفترض أن "داعش" تحاربهم! وفي خضم انشغال السعودية في التصدي لمغامرة إيران في اليمن، عبر مليشيات الحوثيين، المتحالفين مع قوات الرئيس المخلوع، علي عبد الله صالح، تطل "داعش" برأسها عبر تفجيرين انتحاريين في مسجدين شيعيين في القطيف والدمام، لتضع المملكة في موقفٍ لا تحسد عليه، ومقدمة لإيران وأشياعها بوقاً مجلجلا لحرف النقاش إلى "مظالم" الشيعة بدلاً من عدوانية إيران!
وثالثة أثافي "داعش" اليوم إعلانها الحرب على حركة حماس "المرتدة" في قطاع غزة، وجناحها العسكري، كتائب الشهيد عز الدين القسام. ولم يشفع لحماس والقسام مقاومة إسرائيل والتصدي لاحتلالها، وانشغالهما بالاستعداد لمواجهة عدوان جديد محتمل على القطاع، يحذر بعض قادة إسرائيل من أنه قد يأتي صيف العام الجاري، بل إن من يُزْعَمُ أنهم "داعش" في غزة يطرقون على أبواب إسرائيل، عبر صواريخ مشبوهة، يستحثونها على عدوان مدمر آخر على القطاع المنكوب! ولكن، ولمَ العجب، فإذا كان الشقيق في جبهة النصرة "مرتداً"، فكيف لا تكون حماس الإخوانية "مرتدة" بالأولى؟ أما الضفة الغربية، والتي تقبع تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر، فليست "ساحة جهاد".
باختصار، إذا أردت وأد مطالب مشروعة لحراك شعبي سلمي فاحقنه بفيروس "داعش"، وإذا أردت التشويش على مقاومة أو ثورة عادلتين فاحقنهما بفيروس "داعش"، وإذا أردت إفساد بلد فاحقنه، أيضا، بفيروس "داعش". ومن أسفٍ أنه لا زال فينا كثيرون يؤيدون "داعش" يأساً من باب أنها الخيار الأخير، "خيار شمشون"، القائل "عليَّ وعلى أعدائي". المشكلة أن خيار "داعش" سيكون "علينا" فحسب، وسواء كانت "داعش" إفراز مؤامرة خارجية، أم عوامل موضوعية، فإنها بذاتها سلاح مؤامرة.. إنها "حصان طروادة" الذي يركبه طغاتنا وأعداؤنا على السواء، لإجهاض حلمنا ومستقبلنا، أمة وشعوباً.