حسن المددي: هجرة بلا جدران

21 يناير 2015
ماريان كتزراس/ تونس
+ الخط -

في إحدى حواراته، عام 2007، قال الروائي الفرنسي الحائز على "جائزة نوبل" الأخيرة، باتريك موديانو: "نكتب النثر لأننا شعراء متواضعون". وقد تنطبق هذه المقولة على الشاعر المغربي حسن المددي الذي كتب كثيراً من الشعر العمودي وشعر التفعيلة قبل أن يكتب روايته الأولى "ليالٍ بلا جدران"، الصادرة مؤخراً عن "دار توبقال"، ويدهش المتتبعين بنص محكم يجمع بين السهل والممتنع في قالب روائي كلاسيكي يفوح بلذة القراءة.

سدّت رواية "ليال بلا جدران" نقصاً كبيراً في ما يخص التناول الروائي لمسألة الهجرة في المغرب وتأثيراتها العميقة على المجتمع الريفي الذي صدّر اليد العاملة إلى فرنسا بكثافة في مستهل الستينيات.

تحكي الرواية قصة شابين (إبراهيم الخضار ومبارك البياض) ينحدران من قرية آيت همّان المنسية في أقصى الجنوب المغربي، يتم اختيارهما برفقة الآلاف من الشبان المغاربة من طرف مستثمر فرنسي للاشتغال في مناجم الفحم ومصانع السيارات في الشمال الفرنسي، في الفترة التي كانت فيها فرنسا بأمسّ الحاجة إلى يد عاملة رخيصة.

يتفنّن الكاتب في الوصف الدقيق للقرية وعوالمها الفقيرة والقاحلة قبل ظاهرة الهجرة، كما يصوّر بدقة الحياة البائسة والمتقشفة لسكانها المعدمين، الملتصقين بالطبيعة المتوحشة والقاسية صيفاً وشتاء، والمكتفين بالقليل من أجل البقاء على قيد الحياة.

وفي هذا السياق، يسجّل تحالف الطبيعة بجفافها وشح أمطارها مع أعوان السلطة الذين يستغلون القرويين ويسخّرونهم كالعبيد. لكن الإضافة القوية للرواية تكمن في جانبها السوسيولوجي وتصويرها للتصدع الرهيب الذي خلفته الهجرة على النسيج الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي للقرية.

هكذا تحول رعاة وفلاحو الأمس القريب إلى أثرياء بفضل العملة الصعبة، ما غيّر المشهد الطبقي بشكل جذري في القرية: "عجيب أمر هذه المنطقة... لقد تغيرت البنية الاجتماعية تماماً. كانت الطبقة الخاصة تتكون من المعلمين والفقهاء والتجار وشيخ القبيلة ورجال السلطة المحلية وهي التي تتحكم في نبض الحياة. وكانت العامة تعيش كالقطيع المنقاد إلى المسالخ، تأتمر بأوامر الطبقة الخاصة في كل كبيرة وصغيرة. الوضع الآن منقلب على نفسه، العامة أصبحت خاصة والخاصة تحولت إلى عامة. العمال المهاجرون رعاة الأمس غدوا يمسكون بأعنة الاقتصاد هنا".

 غير أن هؤلاء المهاجرين، رغم تحسينهم لوضعهم المعيشي، دفعوا ثمن الهجرة باهظاً. فإضافة إلى قساوة العمل والعيش في فرنسا، لا يتمتعون سوى بشهر عطلة في القرية، ويتركون زوجاتهم وحيدات طيلة السنة ليستمتع بهن رجال القرية. كما أن هؤلاء تحولوا إلى ما يشبه البقرات الحلوب في نظر سكان القرية الذين ينافقونهم طمعاً في أموالهم.

لكن المأساة الحقيقية لهؤلاء المهاجرين تكمن خصوصاً في التشظي الوجودي وفقدان الحس بالهوية والانتماء، كما يقول ابراهيم الخضار: "في الحقيقة يا مبارك، إنني أشعر بالغربة هنا وهناك. إننا نضحك على أنفسنا. لم نعد مغاربة حقيقيين ولن نكون أبدا ربع فرنسيين. إننا ضائعون وتائهون هنا وهناك. وكلما فكرت في وضعي وأنا بعيد عن أهلي ووطني أشعر بكراهية شديدة لنفسي"

"ليالٍ بلا جدران" رواية واقعية بالمعني الحرفي للكلمة، لكونها تعتمد على الحبكة والشخصيات. فالعمل قصة تتفرع منها مجموعة من الأحداث المتلاحقة بشكل كرونولوجي، ويظهر فيها الراوي متحكماً في توجيه دفة السرد وخطاب الشخصيات.

وتبدو الرواية أيضاً وكأنها حكاية شفاهية لحكواتي ماهر يوزع الأدوار على الشخصيات ويسترسل في وصف الأمكنة ودواخل الشخصيات ليبلغ رسالة أخلاقية للقارئ مفادها في النهاية أن الهجرة شر لا بد منه، وأن العيش في البلاد رغم الضنك والبؤس يبقى أفضل من الرحيل وأموال الغرب.

المساهمون